الجمعة 2022/11/25

آخر تحديث: 13:41 (بيروت)

مارادونا... كجِنّ مُستحضر

الجمعة 2022/11/25
مارادونا... كجِنّ مُستحضر
يوم رفع كأس العالم
increase حجم الخط decrease
شبح مارادونا الكروي لا ينتهي، "تشي غيفارا" كرة القدم يبقى في الوجدان في الذاكرة. دائماً تحاك حوله الحكايات و"الأساطير"، في الكتب والسينما والمسرح والرواية والقصة القصيرة وفي أخبار المونديال. فهذا اللاعب الذي يتعاطى معه بعض الجمهور بنوع من التقديس، بدأ حياته من القعر، والده كان يعمل كثيرًا إلى"حد قتل نفسه"، بحسب تعبير مارداونا الذي يضيف "ثم كان أبي يتلقى يوميته ويشتري لي حذاءً فأمزقه سريعًا لأني ألعب الكرة طول اليوم. كان ذلك يدعو للبكاء! وكنا نبكي، وكان يضربني… في الرابعة فجرًا كان يستيقظ ليذهب إلى عمله في المصنع، إن لم يفعل كنا سنتعفن في البيت ونبقى بلا طعام".



هكذا بدأ مارادونا، الذي جعل من الكرة ساحرة، وليست هي الساحرة بذاتها، فهو كان في الليل ينام ويضم الكرة بين ذراعيه، وفي النهار يذهب إلى الملعب يصنع بها معجزات. كان "يخيط الكرة إلى قدمه، وله عيون في كل أنحاء جسده"، كما وصفه الكاتب إدواردو غاليانو. لعب، تألق، زعبر، دخل في متاهات، أطلق مواقف سياسية، تقرّب من الثوريين(كاسترو وغيره)، أحبّ فلسطين، كره الفيفا وأميركا، تورّط مع المافيا، أدمن المخدرات، كل شيء في حياته كان يتكدّس ليزيد من أسطرته. صار في العالم ما يسمى بظاهرة المارادونيين الذين لم يتخلوا عن نجمهم حتى وإن اقترف السلبيات والشيطنات والولدنات... من الميدان، تظهر لنا علامات الهوس بشاعر الكرة وأديبها وقديسها، القصة الأكثر إثارة تتمثل في انتقاله إلى نادي نابولي وهي المتداولة في وسائل التواصل الاجتماعي.

يقال إن رئيس النادي آنذاك زار عمدة المدينة وقال له: روما هي عاصمة إيطاليا، وميلان هي مدينة الأزياء، وتورينو الاقتصاد، ألا يجب أن نجعل مدينتنا تمتاز بشيء يدر عليها المال كباقي مدن إيطاليا؟ فأجابه: ليس في خزينة المدينة المال الذي يكفي لجلب الاستثمارات. فقال له: سنجعل مدينتنا تعج بالسياح والحل أن نجلب مارادونا، والعالم كله سيلحقه إلى نابولي. فوافق عمدة المدينة على قيمة مارادونا وجلبه إلى نادي نابولي، فاستقبلته الجماهير بعبارة "هناك نجوم كثيرة لكنك النجم الأكثر إشراقاً"، وصدموا بأن العمدة تردّد في استقطابه لأن المبلغ كبير، فشكلت الجماهير صندوقاً بالتعاون مع السلطات في نابولي من أجل إتمام الصفقة ونجح الأمر!

وفور اعلان الصفقة، حجزتْ جميع الفنادق في مدينة نابولي من قبل الصحافيين والمراسلين في العالم، وامتلأت مدرجات ملعب نابولي لاستقباله، فبدأ السكان يؤجرون منازلهم وجاء المستثمرون لبناء الفنادق والمطاعم لاستيعاب السياح، فنهضت كل نابولي بسبب دهاء رئيس النادي وتعاون الجمهور.



نابولي ومارادونا، فيلم من نوع آخر، سحر مختلف. كتب جيمس بيرد في العدد العاشر من مجلة "مونديال" العام 2017، "نابولي تتنفس دييغو مارادونا": في مدينة يهيمن التمرّد والحظ وكرة القدم على أزقتها وتلالها الملفوحة بالشمس، رُفع دييغو إلى مصافّ الآلهة. بعد ثلاثين عامًا على أول سكوديتو لنابولي، ما تزال هالة هذا الثوري، اجتماعيًا ونفسيًا وبدنيًا، تُدحرِج كرة من الأمل عبر الشوارع الخلفية الضيقة، وأمام الحانات الدبقة، وحول ورش النجارين. هنا، كان مارادونا أكثر بكثير من أفضل لاعب كرة قدم في العالم. كان إلهًا؛ ثائرًا؛ ملكًا؛ حيوانًا؛ قديسًا؛ آثمًا؛ أخًا؛ رابحًا. والأهم، كان واحدًا منهم. لقد اقترن دييغو مارادونا بالشوارع بأسمى معانيها، وتشرّب نابولي كما تشرّبته". و"يظهر مارادونا على الجدران ومن الأدراج في اللحظة التي يُذكر فيها اسمه، هكذا، كجنّ مُستحضر". بمعنى آخر مارادونا صنع حياة مدينة، أدخلها في لعبة المنافسة.

أحد المواطنين قال لجيمس بيرد "جامايكا لديها بوب مارلي، وكوبا لديها تشي غيفارا، ونحن لدينا مارادونا". ثمة شخصيات تلخص تاريخ بلد، لتتحول إلى نموذج البطل الشعبي، ومارادونا فوق ذلك بطل شعبي في بلد لا ينتمي إليه. في قراءته لكتاب "أنا دييغو" وهو سيرة اللاعب الارجنتيني، ينقل المترجم أحمد عبد اللطيف أنه في إحدى مباريات كأس العالم 1990، لعبت الأرجنتين ضد إيطاليا في ملعب نابولي، والنابوليون شجعوا مارادونا ولم يشجعوا فريق بلدهم. هذه اللحظة كانت حاسمة في نهاية مارادونا في إيطاليا، لكنها نهاية سعيدة ملأى بالمجد، فكل الخير الذي فعله لأهل نابولي تجسد في هذه اللحظة، لحظة انتصار النابوليين له. لحظة رأى فيها أطفال نابولي في مارادونا بطلهم الشعبي، ونسوا أنه أجنبي، نسوا ذلك رغم أن أوروبا لم تنس قط أنه أجنبي.

ربما خير معبّر عن المارادونيين في العالم الآن، ما نشره الكاتب العماني سليمان المعمري في مجلة "فنون" المصرية، يقول: "تلحّ علي بشدة وأنا أحاول استيعاب رحيل مارادونا عبارة أنطوان تشيخوف عن أن أولى علامات الشيخوخة أن تتحوّل من إنسان يحلم إلى إنسان يتذكّر. ها أنا إذن أؤرخ لبداية شيخوختي المبجلة بــ25 نوفمبر 2020، تاريخ رحيل هذا اللاعب الفذّ الذي قلّما يمكن أن يتكرر بسهولة، في زمن أصبحتْ فيه كرة القدم –مثل أي أمرٍ آخر-... في الخامس والعشرين من نوفمبر 2020 لم يمت مارادونا وحده. لقد مات معه ماضٍ جميل لجيل كامل حلم فيه بأشياء كثيرة لم تتحقق...".
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها