الأربعاء 2022/11/23

آخر تحديث: 11:59 (بيروت)

"بِركة العروس" لباسم بريش.. الماضي مسألة عائلية

الأربعاء 2022/11/23
increase حجم الخط decrease
فاز فيلم "بِركة العروس" للمخرج اللبناني باسم بريش بثلاث جوائز خلال منافسته في مسابقة آفاق السينما العربية، ضمن فعاليات الدورة الـ44 من مهرجان القاهرة السينمائي الدولي. والجوائز هي: جائزة صلاح أبو سيف (لجنة التحكيم الخاصة)، وأفضل أداء تمثيلي لكارول عبّود، بالإضافة إلى تنويه خاص من اللجنة المانحة لجائزة أفضل فيلم عربي.

يروي الفيلم محاولة امرأتين المحافظة على حياتهما والمفاوضة عليهما الواحدة ضد الأخرى، ويرسم معالم الصلة التي كانت تربطهما يوماً. الأمّ سلمى (كارول عبّود)، امرأة ستينية تجاوزت ماضيها وحَمَت استقلالها عبر تخلٍّ عن كل ما تعلَّقت به وهروبٍ أليم من روابطٍ كبّلتها، بما فيها رابط الأمومة بابنتها ثريّا (أميّة ملاعب). لكن الماضي لا يموت، كما يُقال، لم يشأ أن يتركها في عزلتها، فأعاد لها ثريّا، مهزومة ومُطلَّقة وحامل. تعاند المرأتان هذا اللقاء بينهما، قبل أن تكتشفا على مضض أن الخيبة المشتركة باتت هي الرابط الأخير بينهما.

تعيش سلمى منذ سنوات في قرية جبلية نائية. حياتها هادئة ومستقرة في ظاهرها ومستقلة وغير تقليدية في باطنها. لا ينقص سلمى شيء ولا تحتاج لأي شخص: تعيش سلاماً داخلياً. عودة ابنتها الحامل إليها يجرح فضاءها الروتيني ويطلق العنان لفوضى حيث تستحيل الحياة.

هذا كلّ ما يمكن قوله عن "حبكة" الفيلم. يختار بريش ألا يروي قصصاً. لا أحداث في الفيلم تقريباً، إلا تلك المتعلّقة بمهمّة صعبة تتشارك الأمّ وابنتها في إنجازها. غياب الحكي والحوار عن الفيلم ألقى على ممثلتيه الرئيسيتين مهمة أخرى صعبة لتظهير ما لا يمكن قوله. كارول عبّود، القديرة والخبيرة، تلتقي مع أمية ملاعب، البادئة في التمثيل، ليقدّما مباراة تمثيلية رافدة لمناخات بصرية وأمزجة ميلانكولية يداوم الفيلم على "مَسمرة" نفسه فيها.

ما لا تخبره الألسنة ولا تقوله الجُمل المراوحة بين الشخصيات، يترجمه الإيقاع والصورة. كاميرا نديم صوما تلتقط البون الشاسع بين زمنين، الأول صيفي صحو واعد ومفتوح على احتمالات كلها جميلة، والآخر شتوي بارد كئيب منذر وعالق في الوقت. فيما مونتاج رنا صباغة يآلف بين كادرات صامتة في أغلبها تختزن تفاصيلها دواخل وعلاقات ومواجهات وأوقات. وفي الأثناء تتثبّت الحالة المزاجية للشخصيات من خلال الملابس والإضاءة والديكور وحركة الكاميرا.


أراد بريش "الحديث عن امرأة لا يعرفها"، كما قال في النقاش الذي أعقب عرض الفيلم في القاهرة، من دون أن يثقل فيلمه بخطاب نسوي زاعق أو بيانات غاضبة أو حتى تقديس العلاقة بين الأمّ والإبنة كما تفعل الكثير من الأفلام. وفي سبيل التركيز على بطلته اختارها وحيدة بلا رجال في حياتها (لا زوج ولا حبيب ولا ولد)، نتابعها في شؤونها اليومية ورتابة أيامها، ثم بعد ذلك تقتحم وحدتها ابنتها، المرأة الثانية في الفيلم، ومن ثمّ نعاين آثار ولواحق هذا اللقاء. بين ماضٍ مرير لم تزل مفاعيله حيّة ومتعيّنة وحاضر معلّق بقرارات ضرورية وحاسمة؛ تحاول المرأتان بناء حياة من رُكام خبرتهما حتى إن اضطرهما هذا الخيار لمواجهة ما لا تريدانه: نفسيهما.

بحوارٍ في حدّه الأدنى واستكشافات ومفاوضات لا تظهر تفاصيلها على الشاشة، تخترع المرأتان أرضاً مشتركة لبلواهما بديلاً من التدرّع والإنزواء خلف أقنعة الخيارات الفردية وأخطاء الماضي. شيء من روح الأختيّة، لا الأمومة، يجمع سلمى بثريّا في كفاحهما لتجاوز الماضي وتبعاته، مثلما في اتحادهما بمواجهة الوحدة وغياب الرجل/القضيب. هذا التفصيل الأساسي لما يريد الفيلم قوله هو أدوم ما في النصّ، وما يميّزه عن غيره من أعمال تذهب إلى مناطق أليفة ومألوفة في تناولها العلاقات العائلية وجدرانها ومآزقها.

احتاج صنّاع الفيلم 8 سنوات لإنجازه، 5 منها في التحضيرات، مروراً بالتصوير الذي ترافق مع موجة حرائق شهدها لبنان دمّرت موقعي تصوير مخصصين للفيلم وأعقبها موجة احتجاجات شعبية، ثم المونتاج الذي استغرق عامين بسبب الجائحة والأزمات اللبنانية المتوالدة. تفاصيل تقول أشياء عن صعوبات ومشقّات يختبرها أغلب السينمائيين الجادّين في لبنان كما غيره من بلدان المنطقة، خصوصاً في أعمالهم الأولى.

"بركة العروس" عملٌ أول واعد وراديكالي، يجبر مُشاهده على التفاعل معه بإيجابية وبشكل خلّاق، بلا أن يعده بالكثير أو السير في طرق سهلة؛ فيلم صعب المشاهدة وممتع في آن، الاحتفاء به ضروري ويتجاوز ما ينجح في تقديمه فعلياً (وهو يقدّم الكثير بالمناسبة)، في زمن لبناني صعب وسياقات إنتاجية معقّدة وطويلة. أو كما تلخّص الأمر منتجة الفيلم، جانا وهبي، بقولها "كانت رحلة إنتاجه طويلة وصعبة، ومن أجل إنجازه كان علينا التمسّك بشراكتنا ورغبتنا بمواجهة كل الصعوبات التي مررنا بها وأثّرت علينا؛ أن نحافظ على قيمته الإبداعية بلا تنازلات".

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها