الإثنين 2022/11/21

آخر تحديث: 12:08 (بيروت)

"بانيبال" مجلة ناجحة تتوقف عن الصدور

الإثنين 2022/11/21
"بانيبال" مجلة ناجحة تتوقف عن الصدور
اعداد بانبيال
increase حجم الخط decrease
حينما خرج صموئيل الآشوري من العراق، في نهاية سبعينيات القرن الماضي، كان يحلم بأن يذهب إلى هوليوود عاصمة السينما، لينجز أفلاماً سينمائية تجعله شهيراً وثرياً، لكنه وجد ما يشغله في المحطات التي عبرها، وأخذته الكتابة بعيداً من السينما، فعاش سنوات في باريس، ومن ثم استقر في لندن، وكتب شعراً وأسس دور نشر صغيرة لم تعمر طويلاً، لكنه كتب روايته الجميلة "عراقي في باريس" التي ترجمت إلى لغات عديدة. وفي لندن وبعدما التقى زوجته مارغريت أوبانك، قرر الثنائي تأسيس مجلة "بانيبال" الفصلية لترجمة الأدب العربي، وكانت الفكرة حالمة إلى حد كبير، ولذا شكل صدور العدد الأول في شباط 1998 مفاجأة للأوساط الثقافية العربية لجهة المحتوى والمستوى، والأكثر من ذلك أن المجلة صدرت بتمويل وجهد ذاتيين في ما يخص جمع النصوص وترجمتها وإخراجها وتوزيعها.

أمر مؤسف أن يقرأ المرء في بيان مقتضب، وفي خبر سريع عبر وسائل التواصل، الإعلان عن توقف هذه المجلة الثقافية التي دامت ربع قرن. ويثير هذا الإعلان مسألتين مهمتين. الأولى هي أن هذه المجلة الفصلية التي صدر منها 75 عدداً، كانت فريدة في العالم العربي، وأخذت لنفسها مساراً لم تتبعه مجلات ومؤسسات ثقافية عربية، ونجحت في المهمة التي وضعتها لنفسها، وهي ترجمة الأدب العربي إلى اللغة الإنكليزية. وبالتالي فهي تترك فراغاً، ليس من أحد مرشحاً كي يملأه في المدى المنظور، فالساحة العربية خالية ممن يمتلكون الطموح الذي نجحت رئيسة التحرير مارغريت أوبانك ورفيق رحلتها ودينامو المشروع صموئيل شمعون، في جعله ممكناً، وبلا كلفة مادية عالية.

أما المسألة الثانية فهي، إنه ليس هناك مشاريع عربية خاصة بترجمة الأدب العربي إلى اللغة الإنكليزية، الأمر الذي يعد تقصيراً فادحاً بحق الثقافة العربية، التي تعد واحدة من الثقافات، التي تستحق أن تجد لنفسها مكاناً لائقاً بين الثقافات الإنسانية الحية. وهذا واحد من الإنجازات المهمة التي حققتها "بانيبال"، من خلال محاولة البرهنة على أن الكتابة العربية في الشعر والرواية والقصة والمسرح والنقد الأدبي، بلغت مستوى متقدماً يضعها بين الكتابات العالمية الأخرى، لأنها تحقق الشروط الجمالية والفنية باقتدار، وتمتلك الأدوات والأساليب لتطوير وتجديد نفسها، كما أنها تتمتع بحيوية عالية تعبر عنها الغزارة في الإنتاج وتنوع واختلاف الأساليب، وتعاقب الأجيال، وحضور النساء بالقدر، الذي لا يقل عنه في حال الرجال.

وكان هاجس "بانيبال" تقديم كتابة عربية قادرة على تغيير النظرات السلبية عن الثقافة العربية، التي واجهت اتهامات بالضعف والمحلية وعدم القدرة على الحضور بندّية مع الثقافات الأخرى. وكان ذلك من خلال النص الذي قدمته بلغة إنكليزية لا غبار عليها، وبشكل فني جميل، جعلها محط اهتمام القارئ والباحث في زحام المجلات الصادرة بالإنكليزية.

لا تستطيع مجلة واحدة ادعاء الإحاطة بترجمة الثقافة العربية إلى الإنكليزية، فهذه مسألة تتجاوزها بسبب الكم الهائل للإنتاج الثقافي العربي في ربع قرن، لكن يمكن لها أن تتحمل عبء مسؤولية الأمانة، ولذلك كانت افتتاحية الوداع التي كتبتها أوبانك في العدد 75، رسالة متعددة الدلالات، وأهمها هي أن المجلة "تأسست رداً على النقص الفادح في ترجمة الأدب العربي إلى اللغة الإنكليزية.. وإرساء قاعدة من القراء الذين يحبّون الأدب العربي ويقدرّونه". وهذا ما يجعل من الفراغ الذي سيتركه توقف "بانيبال" مسألة تستدعي تداركها، وربما المسارعة إلى الحيلولة دون توقف هذا المشروع، الذي بذل الزوجان جهداً استثنائياً لإيصاله إلى المستوى الذي بلغه، ولم يعد في وسعهما الاستمرار به وفق الإمكانات المتاحة. وفي حال توافرت الإرادة والهمة، فإن "بانيبال" نفسها تشكل أرضية متينة، يمكن البناء عليها من أجل مؤسسة كبيرة لترجمة الأدب العربي إلى الإنكليزية، وفي وسع مؤسّسَي هذه المجلة أن يلعبا دوراً مهماً في ذلك.

مجلة "بانيبال" تحتفظ بسمعة جيدة في الأوساط الثقافية والأكاديمية الغربية بفضل المهنية، والمحافظة على الاستقلالية لمدة ربع قرن، تفرغ خلاله أوبانك وصموئيل كلياً لها، وحين قررا إيقاف المجلة لم يحاولا المزايدة أو الشكوى من التقصير الفادح في دعمها من المؤسسات العربية، وهذا أمر يحسب لهما وليس عليهما، ولذا حين يتم الحديث عن الترجمة من العربية الإنكليزية، ستبقى "بانيبال" محطة أساسية، تضيء على ما قبلها وما بعدها.
 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها