الأحد 2022/11/20

آخر تحديث: 07:53 (بيروت)

لقد قضموا ملاعبنا وتحوّلنا إلى طابة

الأحد 2022/11/20
لقد قضموا ملاعبنا وتحوّلنا إلى طابة
المنتخب الألماني تشكيلة 1994
increase حجم الخط decrease
تشير كل المحاولات إلى أنني أغفلت اللحظة التي بدأتُ فيها رحلة الانفصال عن عالم كرة القدم، سواء على مستوى التشجيع أم على مستوى ممارسة هواية. وأنا المشجّع للكرة الألمانية منذ بداية وعيي الكروي، حين كانت أسماء "فولر" و"ماثيوس" و"كلينسمان" و"بريمه" و"ايلغنر"... الخ، تشكّل علامة لافتة، قبل أن يهيمن وجه "كان" الأسدي على مجمل تفاصيل الملعب والشاشة لاحقًا. حتى إن ملامحه بدأت تطغى على بقية اللاعبين في بقية المنتخبات.

أما لماذا المنتخب الألماني من بين كل المنتخبات، وهو الذي يفتقد، وبشكل مستمر، إلى نجوم بمهارات فردية استثنائية، فالجواب سهل: لطالما شجّعت المنتخب الألماني للسبب نفسه الذي يراه البعض كافيًا لعدم تشجيعه. أشجعه لأن لا نجوم بمهارات فردية طاغية فيه، لأن لا أفراد يهضمون حق بقية اللاعبين، بل مجرد لعب جماعي في لعبة جماعية. يصعد الفريق بأكمله أو يهبط بأكمله. منتخب تظهر معه بنية الهجمة كرسمة هندسية مرسومة بالمسطرة ولا خلل فيها. مكنة متحركة في كافة الاتجاهات بشكل مضطرد ونسَقي. آلة تدور في الملعب فتؤدي دورها بإتقان وبتنسيق سيمفوني مستمر منذ اللحظة الأولى حتى اللحظة الأخيرة. لوحة فنية تتمازج فيها الألوان والأشكال كافة، فتنعكس في هيئة جمالية تخلط كل الأسماء واللمسات. وفوق كل هذا، لعب إلى ما بعد صافرة الحكم، لا إعلان انتصار مبكر فيه، ولا هزيمة متأخرة.

إلا أن تشجيعي هذا لم يبقَ على وتيرة واحدة، بل كان ارتيابيًا. فكنت أنزلق أحيانًا للتركيز على ظواهر أخرى، حيث استرعت اهتمامي ثنائيات شهيرة كانت بمثابة زينة مشهد ذلك الملعب الأخضر. فكانت ثنائية مارادونا وكانيجيا، رود غوليت وفان باستن... الخ، وغيرها الكثير من أسماء تأسر جزءاً من القلب قبل العين. كلها تمر في بالي اليوم كالصاعقة، كالبرق، قبل أن تنسحب من مكانها في الذاكرة، فتتقدم ذكرى ملاعب كرة القدم التي كانت تنتشر في حارة حريك وغيرها من مناطق الضاحية، قبل أن تستبيحها أسنان الجرافات بغية تشييد الأبنية أو الحوزات الدينية أو الهنغارات العاشورائية والسياسية. وقبل أن تستكمل الألعاب الالكترونية هذا الانقضاض، وتبدأ بتعليبنا وحصرنا في شاشة، في كرة القدم كما في غيرها، ليس فقط بدورنا كمشاهدين بل أيضًا كلاعبين.

(هدف الماكر ليتشكوف في مرمى المانيا)
كانت المرة الأخيرة التي شاهدت كأس العالم بكل جوارحي، أو بالأحرى عشت كأس العالم ومبارياته، وكثرة الحماس فيه، في مونديال 1994. يومها أجهشت في البكاء على سطح منزل أقاربي الجنوبي، بعد خروج المنتخب الألماني من الدور الربع نهائي، بسبب تسجيل اللاعب البلغاري الماكر ليتشكوف رأسية كان وقع دخولها في شباك المرمى كدخول رصاصة في جسد حلم مراهق. يومها، لم أكن أعير كثير اهتمام لنتائج امتحانات الشهادة الرسمية المتوسطة بقدر اهتمامي بفوز المنتخب الذي أُحب. ولربما، وأنا أعيد التفكير اليوم، كان التوتر الناجم عن انتظار النتائج هو المحرك الفعلي والمضمر خلف عملية الاجهاش تلك، فكانت الكرة الرأسية الشحنة التي فجّرت كل شيء في أرض تهيمن عليها البراءة القابلة للاشتعال عند مصادفة أية شعلة.

واظبت على مشاهدة المباريات من بعدها لكن ليس بالوتيرة ذاتها، فاقتصرت على بعض مباريات الفرق الكبيرة، والمباريات الحساسة، بالإضافة إلى مباريات المنتخب الألماني بطبيعة الحال. وهنا، لا يمكن تصنيف اقتصار المشاهدة على هذه المباريات بمثابة خيانة لكرة القدم، إن كان هناك ما يمكن أن نطلق عليه التسمية هذه، بل أرى أنه نابع من حالة اكتفاء يقدمها هذا المنتخب، حالة اكتفاء خاصة لمسار اللذة الكروية.

لم أذكر، حتى اللحظة، متى بدأ أمر الانفصال عن اهتماماتي الكروية المكثّفة. إلا أن العوامل المساعدة لربما كانت، كما في كل شأن لبناني آخر، تبدأ بالمواقف الشعبوية التي تتسلل إلى أماكن تشجيعية لهذا الفريق أو ذاك والتي لا علاقة للسياسة بها، أو بالأحرى، إلى أماكن لا تقدّم السياسة فيها أي شيء وأي خدمة. ذلك لأن مجمل ما يفترض أن يهيمن على المشهد الكروي هو النظرة الجمالية، الإعجاب باللياقات البدنية العالية، بالتمريرات البينية، بالركلات الحرة وبالقدرات الاستثنائية خلال رسم الهجمة، وصولًا إلى تنسيق الحركة ومكر المهاجم بالتسلل خلف خطوط الخصم بخفة وانطلاق. والفصل بين الميدان الأول والثاني ليس تحصيل حاصل، إذ إن سؤال السياسة يختلف تماما عن سؤال الجمال، الأول قاعدته المصلحة والثاني اللذة، وهنا ينبني التعارض. لم يكن يُفترض أن يندرج تشجيع هذا المنتخب أم ذاك في سياق المصلحة، بل كل ما أردناه يومها، وما نريده اليوم، هو قليل من الهرب باتجاه الإثارة والفن لتحلية خلفية مشاهدنا اليومية الباهتة.

لقد بدأ المعيار السياسي بالتغلغل إلى الهيمنة على التشجيع في أرض الملعب، فقارع ليس المباريات فحسب، بل رغبتي بمشاهدتها أيضًا. علماً أنني مازلت أمارس سلوك "التزريك" لكن لا أعلم بأي غاية. لربما التزريك كغاية في ذاته، التزريك الاستفزازي، استحضره هنا وهناك وسرعان ما أمل منه ومن المباريات، ومن كأس العالم نفسه، فأفضّل الانصراف إلى لقاء في قهوة، أو مشاركة في حديث خافت دون ضجيج الملاعب والتعليقات والحماس المتأتي عن خسارة أو عن فوز.

عايشنا، انا وجيلي، والجيل اللاحق، ونحن نتأرجح في مراحل المراهقة، كل مسارات تضييق المساحات المحتملة للعب في الطابة. سواء بسبب الحرب، أو بسبب شره الأبنية المتعاظم. وكنا كلما ضاقت مساحة، وقُضم ملعب، يُقضَم طموحنا في اللعب، فننسحب إلى الألعاب الالكترونية، لنتحول، رويدًا رويدًا، من كوننا لاعبين، إلى كوننا مجرد طابة.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها