السبت 2022/11/19

آخر تحديث: 13:30 (بيروت)

"خطوة إلى الأمام" لشارل خوري..ألوان متحرّرة من المراقبة

السبت 2022/11/19
increase حجم الخط decrease
معرض شارل خوري، المقام لدى "غاليري مارك هاشم"، يضم 22 لوحة مشغولة بالأكريليك، ذات أحجام كبيرة، وقد اتّخذ المعرض عنوان: "خطوة إلى الأمام". يمثّل المعرض، بما يحتويه من أعمال، مساحة جديدة من المساحات–العروض المتتابعة للفنان منذ سنوات غير قليلة، ما يسمح لنا برصد تطور مسيرته.

عند قراءة عنوان المعرض لا أستطيع أن أكبح جماح نفسي عن استذكار العبارة اللينينية التي عنوانت كتاب فلاديمير إيليتش قبل حوالى 120 عاماً، من دون أن أستلحق العبارة بنصفها الثاني. السياسة، التي خضنا غمارها ذات يوم ونحن نحلم بوطن أفضل، صارت بعيدة، في هذا البلد الذي سفّه كل شيء، بحيث صرنا نبحث عن جمال لم تستطع السياسة أن تؤمّنه، بحسب طرقها وأساليبها، ولا أن تقيم له نبراساً ينير أفق الأمل لدى خليقة مرهقة، وتائهة في زواريب اليأس.

بعيداً من الإنشاء اللغوي، الذي لا يعدو كونه وسيلة لا مفرّ منها، يمكن القول إن معرض شارل خوري الملوّن يفتح ذلك الأفق المقفل، مجازياً على الأقل، ومن طريق مختلف. الدخول إلى صالة العرض، ذات الجدران "المزركشة"، يشكّل مصدر راحة نسبية للنفس، من وجهة نظر خاصة. الأعمال المعلّقة على تلك الجدران تستفز العين قبل البحث عن المفهوم، ما يدفعنا إلى القول إن الناحية البصرية سبّاقة في هذا الموقع، ولو أن المستوى البصري يختلف عن المفهوم السائد، الذي لم ينج من التعلّق بالأشكال الكلاسيكية، الأقرب إلى المقاييس العامة.

المميّز في الأعمال التصويرية، التي نحن في صددها، هو في طريقة التعامل مع اللون، بصفته عنصراً مستقلاً وقائماً في حد ذاته. في هذا المجال، يبطُل التصوير بالمعنى التقليدي للكلمة، كما تبطل الوسائل التقليدية المرتبطة به، كالدراسات الأولية التحضيرية. سمعت شارل خوري يقول إن اللوحة تقوده أحياناً، بدلاً من أن يسيّر أمورها هو. هذا الأمر يعني أن التصوير يصبح عبارة عن مجموعة ردود أفعال لحظوية على مؤثرات تأتي من هنا وهناك خلال العمل على اللوحة، من دون أن يؤدي ذلك إلى فوضى تشكيلية، بقدر ما يشير إلى حرية كاملة، تتحرّر نسبياً، من قيود المراقبة، بعدما باتت، عملياً، خاضعة لقوانينها الخاصة. وإذ لا يغيب الشكل عن أعمال الفنان، وهو الأمر الذي يحول دون نسبها إلى آفاق التجريد، فإن بعض المقاطع من العمل، إذا ما نُظر إليه على حدة، فهي لن يكون بعيداً كثيراً من الفن اللاتمثيلي. لكن هذه التفاصيل، اللاشكلية، تتحد في بعض الأحيان من أجل تكوين الحدود العامة للشكل، علماً أن هذا الشكل جرى رسمه، أحياناً، بخطوط سميكة، أو من طريق تعاكس حجمه مع لون الخلفية.



بيد أن هذا الشكل لا يتحدد تماماً، لدى خوري، كحقيقة مكتملة لا جدال حولها، لأن هذا الفن لا يرتبط، في مفهومه العام، بالشكل الذي يكتسب أوصافاً واقعية تلبية لشروط أكاديمية، بقدر إرتباطه باللون المعبّر عن إنفعالات مباشرة. هذه الطريقة قادت الفنان إلى أعمال تصويرية قد يكون ما تتضمّنه شبيهاً بأشكال أو إشارات ما، إلاّ أنه لا يرتبط بأي شكل محدد. فالفنان، الذي تخلّى عن الدراسات الأولية المعدّة سلفاً، كما قلنا، لا يهتم إلاّ بما سيولد أثناء العمل، وذلك وفقاً لطبيعة المادة، وطريقة إستخدامها، واختيار ما يناسبه من إمكاناتها الكثيرة. هذه الطريقة، التي نخمّن أن خوري قد اتبّعها، تقودنا إلى ذكر ما أفاد به جاكسون بولوك، حين قال: " لا أعي ما أفعله.. لكن بعد برهة من الإطّلاع أرى ما صرت عليه.. وأنا لا أفشل إلاّ عندما أفقد صلتي باللوحة".

من ناحية أخرى، لا بد من أن تخطر في بالنا، لدى معاينة أعمال شارل خوري، أفكار وممارسات جماعة Cobra. وكوبرا هي إختصار للعواصم الأصلية للفنانين الذين أرسوا معالم تلك الحركة، وهي: كوبنهاغن وبروكسل وأمستردام. وإذ يكون من المستحسن الحديث، بإختصار شديد، عن هذه المجموعة، لكون أعمال الفنان تدفعنا إلى ذلك، فيمكن القول إن تجمع الفنانين المنضوين تحت لواء الحركة المذكورة، أمثال كورناي وكارل آبل وآسجر يورن، كانوا قد رفضوا الشكلية، شبه الأكاديمية، التي حققها الفن التجريدي، من وجهة نظرهم. لذا، فقد قاموا بتطبيق فن تجريبي تحوّل إلى خيالات شبه موضوعية، تتأرجح بين شكلين رئيسيين: عالم الحيوان وعالم الطفولة. تم، حينها، رسم العديد من الأشكال البدائية ذات الألوان الزاهية على خلفية سوداء متكررة تقريبًا، كانت تتّبع خطاً أطرافه غير محددة، وتبدو "بسيطة" وخالية من أي تقنية، كما هو الحال في أعمال عالم الحيوان.

في معرضه "خطوة إلى الأمام"، يجد خوري نفسه وجهًا لوجه مع اللوحة القماشية، حيث يصبح الفنان أمام مادة خام، سميكة وإستفزازية. إن "عدائية" الفعل تجعل الرسم إصطلاحياً، وقد يهتز القماش تحت ضربات الفرشاة المحمومة. في هذه الحلبة يلعب المصوّر دور الوسيط الذي يجمع بين مختلف العناصر كي يحوّلها إلى نتاج فني. ولعل ما يرفضه خوري هو، في بداية الأمر، مفهوم اللوحة من حيث هي إنعكاس للواقع المرئي، أو تكرار له على أساس كونه نموذجاً. كما يرفض الفنان أي شكل من أشكال التمثيل، بحسب المفهوم المتعارف عليه، أو المحاكاة والتشبّه بالواقع، بحيث يصبح هذا الرفض هيكل اللوحة وجسدها، وموقفاً فنياً في الوقت نفسه.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها