الثلاثاء 2022/11/01

آخر تحديث: 14:00 (بيروت)

محمد شرف لـ"المدن": ثمة استسهال فنّي بحجّة الحرية والمُعاصَرة

الثلاثاء 2022/11/01
increase حجم الخط decrease
تقيم "غاليري إكزود – أشرفية"(بيروت) معرضاً بعنوان "نوستالجيا الخريف" للفنان اللبناني محمد شرف، ويتضمّن المعرض 30 عملاً نُفذت جميعها بالألوان المائية (الأكواريل). اللوحات المعروضة ذات مقاسات متوسطة وصغيرة، وقد نُفذ بعضها خلال السنوات الثلاثين الماضية، لكنها تُعرض للمرة الأولى، مما يمنح المعرض طابعاً إستعادياً. وتعكس الأعمال، في مجملها، أحوال الطبيعة في أمكنة مختلفة كان محمد شرف عاش بين ظهرانيها: لبنان، روسيا، فرنسا وإيطاليا. الإفتتاح الخميس 3 تشرين التاني، ويستمر حتى 9 تشرين التاني). وهنا حوار مع الفنان..

تقدم معرضاً استعادياً وجديداً، يتضمن أعمالاً رُسمت في لبنان وروسيا وفرنسا وإيطاليا، طبيعة رومانسية ومن وحي الخيال، لا ناس فيها ولا بيوت، كيف تغير تخيّل المكان بين البلدان التي رسمت فيها، وما الذي استلهمته من هذه البلدان مكانياً؟

- لا شك أنّ هذه الأمكنة مختلفة قليلاً أو كثيراً من حيث طبيعتها. إذا نظرنا إلى الناحية الجيولوجية، وهي ذات أهمية في المشهد الطبيعي، يمكننا القول أن مدينة لينينغراد (حالياً سان بطرسبورغ) ومحيطها يفتقران إلى المرتفعات، بعكس مناطق جنوب روسيا. المشهد هناك، في شمال البلد الروسي، منفتح تماماً على الأفق، والرطوبة الشديدة تؤدي إلى جو ضبابي. الطبيعة الفرنسية مشابهة للطبيعة الروسية إلى حد ما، من حيث الأمكنة المنبسطة في شمال البلاد، والجبال المرتفعة في جنوبها. أما إيطاليا ولبنان فتجمعهما عناصر مشتركة عديدة. لكن الأمر لا يرتبط فقط بالطبيعة الجيولوجية، بل بأمور أخرى أيضاً، كالفصول والمناخ الذي يميّزها، إضافة إلى الحالة النفسية الذاتية. وفي الحالات كلّها، أنا لم ألتزم بمشهد محدد قائم في ذاته، بل بما تركته تلك المشاهد في نفسي من ذكريات، لذا فإن هذه المشاهد متخيّلة، وقد لا نجد لها أمثلة في الواقع، إلاّ من حيث بعض العناصر المكوّنة للمنظر الطبيعي.

من خلال لوحاتك كيف يمكن التمييز بين الخريف اللبناني والخريف الروسي والخريف الفرنسي؟

- من المعروف أنّ الخريف لا يكون هو نفسه في البلدان كافة، من حيث مظاهره وتجلّياته. تلعب الجغرافيا دوراً أساسياً في هذه المسألة، كما قلت في الإجابة الأولى. الخريف الأوروبي يبدأ باكراً، على عكس خريفنا الذي لا نرى مفاعيله سوى في الأشهر التشرينية. الخريف الأوروبي ملوّن أكثر من خريفنا، نظراً لطبيعة الأشجار ذات التنوّع الشديد. لكن كثرة الألوان لا تثير انتباهي كثيراً لأسباب عديدة. الناس العاديون يُعجبون بالصور الخريفية ذات الألف لون ولون، لكن هذه الحالة قد تكون مميّزة للصور الفوتوغرافية، التي في إمكانها أن تعكس هذه الحالة على أكمل وجه، خصوصاً بعد التطور الهائل لآلات التصوير الفوتوغرافي. لكن الناظر إلى المشاهد التي أرسمها سيكون قادراً على التمييز بين هذا الخريف أو ذاك من خلال بعض الإشارات، وربما بعض مفاعيل اللون غير المبالغ فيه. لكنني أعود وأكرّر، أن المشهد يرتبط بعوامل أخرى، فالحياة في البلدان المذكورة، في بعض تفاصيلها، لا تسير بالوتيرة نفسها في فصل الخريف.



لماذا تقدّم الآن معرضا رومانسياً، خريفياً، حلمياً... هل هو ضجرك من زمن المدن والتحولات البيئية وحتى الرسم الذي بات يلتصق بأنماط سريعة وتراكيب ترتبط بالبوب آرت والتجهيز، و"الفن ضد الفن"؟

- قد يتضمّن سؤالك إجابة شبه كافية إلى حدٍ ما. بداية أنا من الغيورين على البيئة، والمتحيّزين لها، وهي التي تخسر من رصيدها تدريجاً في أنحاء العالم، نظراً لقلة الوعي وإضمحلال الثقافة، وضعف التوجّه البيئي. ثمة نوع من الجهل المنتشر في كل مكان مدعوماً بنوع من الأنانية، التي يستهلك المرضى بها الطبيعة من دون النظر إلى المستقبل، الذي أخشى أن يكون قاتماً. من الناحية الأخرى الملتصقة بالممارسات الفنية، فإننا نلحظ، في الفترات الأخيرة، استسهالاً في صناعة المنتج الفني، يرتكز القائمون به على مبدأ الحرية في التعبير، الذي هو مبدأ لا جدال حوله، لكنه يُستخدم بطريقة مشوّهة. الفن المعاصر يسمح بممارسات لم تكن معهودة في السابق، لكن هذه الممارسات لا ترتبط دائماً بفهم عميق للتطوّر الذي أصاب الفن التشكيلي في بعض مفاهيمه. وللمناسبة فإن تطوّر هذا الفن لا يشبه التطوّرات التكنولوجية (التي تجّير الآن في بعض الأعمال الفنيّة)، فما يُنتج الآن لا يلغي ما سبقه، وبعض الأعمال "الكلاسيكية" ما زال يثير الإعجاب والتقدير، وسيبقى كذلك لفترة طويلة. إن نسف الماضي، بإعتباره ماضياً يجب تجاوزه، لا يخدم الفن.

كيف يمكن تفسير الحلم في اللوحات الفنية؟ هل كان للشعر الرومانطيقي تأثيره في لوحاتك الخريفية؟

- ليس هناك من شك في أن الحلم هو من أكثر الموضوعات التي عالجها الفن التشكيلي. وإذا نظرنا إلى تاريخ الفن سنجد أن هذه التيمة ترتبط تلقائياً بالتيار السوريالي. لكن السورياليين عمدوا إلى معالجة هذا الموضوع من خلال تضمين أعمالهم شخصيات وحالات إنسانية في مواضع قد تكون بعيدة من الواقع، لكون الحلم لا يلتزم القوانين المنطقية التي تحكم الحياة الواقعية، بل يسبر أغوار دهاليز اللاوعي. هناك الكثير من الحلم في أعمالي بالفعل، لكنه يتجسّد في خلق أجواء حلمية معينة متعلّقة بالطبيعة. أمّا في ما يختص بالشعر، فقد قرأت الكثير منه، ومن بين ما قرأته النوع الحامل للنزعة الرومانطيقية في العلاقة بالخريف. أتذكر هنا مقطعاً لغيوم أبولينير، الذي بدأ حياته الشعرية رمزياً، لينتقل بعدها إلى السوريالية. وللمناسبة يجب القول إن أبولينير هو من إبتكر مصطلح السوريالية، أما المقطع الذي يتطرّق إلى الفصل الذي يعقب الصيف فيقول: "خريف مريض ومعشوق/ ستموت عندما يضرب الإعصار في حدائق الورود/ عندما تتساقط الثلوج في البساتين/ خريف رديء/ سوف تموت في البياض / وفي ثراء الثلج والفاكهة الناضجة". وحين يقول أيضاً: "آه .. الخريف.. الخريف أودى بالصيف/ خيالان رماديان يذهبان في الضباب". أو مثلاً عبارة بول فيرلين: "التنهدات الطويلة للكمان الخريفي تجرح قلبي بكسل رتيب". أو، أيضاً، ما قاله فيكتور هيغو: "ها هو الموسم الذي يتراجع/ الظل يكبر/ يتناقص اللازوردي/ تنتعش الرياح على التل / يرتجف الطائر / العشب يشعربالبرد". إلى ذلك، يرتبط الخريف، عادة، بتلاشي الأشياء، وإنتقالها إلى حالات أخرى، أو إختفائها. أعجبني مثل صيني في هذا المجال يقول: "يعيش الرجل حياة واحدة فقط، ويعيش الجندب خريفًا واحدًا فقط".

الى أي مدى تأثرت بالمدرسة الروسية في هذا المعرض؟ وماذا عن تأثير الفنانين اللبنانيين؟

- تأثير المدرسة الروسية واضح. لكن هذا الحكم لا يمكن أن يؤخذ كحقيقة جامدة، أو كإحدى المسلّمات التي تستدعي أسلوباً لا يحيد عن منطلقات تلك المدرسة وأساليبها. المدرسة الروسية غنية، وتاريخها حافل بنتاج كان أثرى التراث الفني العالمي. عاشت هذه المدرسة ظروفاً مختلفة، ذات علاقة بمسألة الخضوع لمتطلّبات الأيديولوجيا في فترات معيّنة، فظهرت أساليب و"قوانين" لم تخدم جميعها التراث الفني، وهذا حديث آخر، لا مجال له هنا. لكن هذا الأمر لم يطاول المشهد الطبيعي كنوع فني قائم في ذاته. المهم في المسألة، هو إن هذه المدرسة تصنع قاعدة للطالب في مجال الفن سيكون في خدمته حين يشاء. لقد علّمتني هذه المدرسة تقنية الألوان المائية، التي هي، كما هو معروف، من التقنيات الصعبة التي لا تتقبّل الخطأ. هذه المدرسة تقنية بإمتياز، ويمكن الإستفادة من هذه المسألة في ممارسات فنية ذاتية، لا علاقة لها بالسياسة وتوابعها. أما تأثير الفنانين اللبنانيين، فقد لا يكون مباشراً، كما من الصعب رصده في أعمالي. الفنانون اللبنانيون المهتمون بأمور الطبيعة سلكوا دروباً مختلفة، أكان من حيث التأليف أم من حيث اللون، ولا أنفي أن بعض أعمالهم اجتاز شوطاً بعيداً ومميّزاً في هذا المجال.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها