الأحد 2022/10/09

آخر تحديث: 10:54 (بيروت)

دروس الثورة الأنثى… في إيران

الأحد 2022/10/09
دروس الثورة الأنثى… في إيران
احتمالات الحرّيّة التي تتراقص اليوم بيضاء لامعةً على ثنايا جدائل الثائرات في إيران
increase حجم الخط decrease
تأمّلوا جيّداً الربيع «العربيّ» الذي يزهر في الخريف على أرض بلاد فارس العريقة صانعاً من التباس الألوان والفصول طريقاً إلى حلم التغيير. تأمّلوا جيّداً الثورة الإيرانيّة الجديدة التي تجترحها المراهقات وبنات المدارس إذ يلقين عنهنّ الحجب ويحوّلنها إلى مأكل للنار والريح. تأمّلوا واستخلصوا الدروس والعبر. سواء استنكرت أميركا أو لم تستنكر، سواء فرضت عقوبات أو لم تفرض. وسواء خرج السياسيّون الأوروبيّون من رماديّتهم و«ماكرونيّتهم» وترجّحهم بين حقوق الإنسان والمصالح الاقتصاديّة أو لم يخرجوا. فالخلاصات واحدة والدروس واحدة.

الدرس الأوّل للثورة الأنثى في إيران هو أنّ الحرّيّة هي ما يحرّك الأفراد ويحرّك الشعوب ويحرّك التاريخ. لا يحتاج المرء أن يكون هيغيليّاً في مقاربته الفلسفيّة كي يدرك هذا. فالنساء اللواتي يصنعن الزمن الجديد من أزمنة الثورات الإيرانيّة المتعاقبة منذ نيّف وعشر سنوات لم يطالبن برفع الحدّ الأدنى للأجور، ولم يرفعن الخبز شعاراً، بل قصصن شعرهنّ كي ينسجن إكليلاً للحياة تتكلّل به النساء اللواتي يحمين الحياة حين يصنعن الحرّيّة. بين الشَعر والشعار حرف واحد في لغة الضادّ الجميلة. وحين يصبح الشَعر النسويّ هو شعار الثورة الجديدة، تعيد النساء اختراع أبجديّة الحرّيّة في بلد تتحكّم فيه سطور تشبه القبور وتسيطر عليه أساطير الماضي. كما في كلّ مرّة، يخيّل للساسة أنّهم حين يلغون المفردة الفذّة التي اسمها الحرّيّة من القواميس والمعاجم يلغونها أيضاً من أبجديّة الحياة. يخيّل لهم ويخطئون، إذ يصدّقون تهويمات خيالهم ولا يتعلّمون من أخطائهم. فتأتي النساء ليقلن لهم: الحرّيّة، يا سادة، هي نبراس الأشياء، وهي الهدف والغاية والمرتجى. والإنسان يأبى أن يعيش عبداً ذليلاً ولو أحاطت به أكوام من الخبز. هذا هو الدرس الأوّل.

الدرس الثاني للثورة الأنثى في إيران هو أنّ المجتمعات لا تُحكم بالدين، بل بالعقل. لقد أطلقت الثورة الأنثى في إيران الرصاصة الأخيرة على الإيديولوجيا التي فحواها أنّ الإمعان في تديين المجتمع كفيل بأن يستجلب عليه بركات الله. هذه الإيديولوجيا نعثر عليها في كلّ منظومة دينيّة تتوخّى تأطير المجتمع باسم الدين. لكنّنا نعثر عليها اليوم خصوصاً في الإسلام السياسيّ بشقّيه السنّيّ والشيعيّ. عبثاً يقول القائلون إنّ هذا الإسلام لا علاقة له بالإسلام الحقيقيّ. فالإسلام السياسيّ، كأيّ منظومة فكريّة أخرى تقوم على تسييس الدين، يستند إلى نصوص دينيّة، وتأويلات يستنبطها علماء دينيّون، ومنظومات شرعيّة يسنّها مشرّعون دينيّون، ومؤسّسات دينيّة تسعى إلى التأثير في المجتمع وجعله أكثر «تديّناً». الإسلام السياسيّ ليس التأويل الوحيد للإسلام طبعاً. لكنّه تأويل ممكن له. ومن ثمّ، الثورة الأنثى في إيران تدعو المسلمين إلى إعادة النظر، على نحو جذريّ، في ترسيم العلاقة بين الروحيّ والزمنيّ، ولا سيّما بين الدين والدولة، وبين التشريع الدينيّ ومجتمعات ما بعد الحداثة. هذا هو الدرس الثاني. 

أمّا الدرس الثالث للثورة الأنثى في إيران، فهو أنّ الدين غالباً ما يتحالف مع السلطة التي يستأثر بها الذكر ويتسلّط بواسطتها، بحيث تمّحي الحدود بين الرجل والأب والقائد العسكريّ والمرشد الدينيّ. هذه النزعة الذكوريّة التي تتلبّس لبوس الدين، وتسعى لقولبة المجتمع والتسيّد على نسائه (وعلى رجاله أيضاً) عبر فرض الحجاب عليهنّ وتأطير العلاقة التي تربطهنّ بجسدهنّ، هي واحد من العوامل الرئيسيّة التي تفسّر مقتل مهسا أميني تحت ضربات رجال شرطة «الأخلاق». ما هي هذه النشوة السحريّة التي تعتمل في أطراف الرجال، وفي أعضائهم التناسليّة، حين يضربون فتاةً حتّى الموت لمجرّد أنّها لم تغطّ شعر رأسها جيّداً؟ ربّما يكون لبعضنا ملاحظات كثيرة على أداء الحركات النسويّة وما تتّصف به أحياناً من غلوّ. لكنّ يُحسب لهذه الحركات، ولا شكّ، أنّها فضحت الذكوريّة المتأصّلة في السيكولوجيا والذهنيّات والقوانين والبنى المجتمعيّة، وفي النصوص طبعاً، ولا سيّما النصوص الدينيّة. كثير من هذا النصوص لا يزال برسم عمليّة غربلة جذريّة بين الثابت والمتحوّل، بين الأصيل الدينيّ الذي يخدم الإنسان والطارئ المجتمعيّ الذي يستخدم الإنسان وصولاً إلى قمعه وسحقه، ولا بدّ، تالياً، من مساءلته بوصفه غير ملزم والقذف به إلى دائرة النسبيّ والمتغيّر. هذا هو الدرس الثالث. 

ماذا ستكون عليه غداً مآلات الثورة الأنثى في إيران؟ لا أحد يستطيع الإتيان بجواب شافٍ. لكنّ الخلوص إلى الدروس واستخلاص العبر ممكنان اليوم. هذه الدروس والعبر هي في ذاتها جزء من صناعة هذا المستقبل المفتوح على آفاق شتّى، لعلّ أهمّها هي احتمالات الحرّيّة التي تتراقص اليوم بيضاء لامعةً على ثنايا جدائل الثائرات في إيران وفي سواد عيونهنّ الشاخصة إلى الشمس.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها