الجمعة 2022/10/07

آخر تحديث: 19:19 (بيروت)

حفريات في إيران السّافرة

الجمعة 2022/10/07
حفريات في إيران السّافرة
(غيتي)
increase حجم الخط decrease
قبل أن تتحول حرباً مُعقّدة، وبعدما كرّست نشوتها -نشوتنا- العميقة لمجرد سماع الأصوات ورؤية القبضات مرتفعة في وجه الاستبداد، كانت الثورة السورية على نظام "البعث" أشبه بضوء كشّاف جديد عرّفنا إلى ذلك الوطن المستعصي على أهله. البلاد، بمدنها وقراها، قبائلها وناشطيها وفنانيها، مدارسها وسجونها وكوابيس أطفالها. أدركنا كم كنا نجهلها ونجهل ناسها، رغم أن بعضنا جيرانها، بالجغرافيا والتاريخ، بل وبالامتدادات العائلية والثقافية. ناهيك عن "وحدة المسار والمصير"، تحفة احتلال النظام السوري للبنان، وشعار "أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة" الذي يضع علم فلسطين بموازاة العلم السوري في مفارقة السرّ الذائع عن تلاعب النظام بملف الصراع الفلسطيني الإسرائيلي دوناً عن الانتصار لقضية الفلسطينيين.


انطلقت ثورة 2011، وفي غضون شهور، شقّت سوريا القميص الذي كان يتلبّسها بالمقلوب. بثّت لنا ماضيها وحاضرها الأقرب إلى حقيقتها، أسماءها وتلاوين شعبها التي كنا نظن أننا نعرفها جيداً بحُكم "القربى"، فقط لنوقن كم كنا -مثل السوريين المخطوفين- في عتمة التجهيل واحتكار السردية من قبل السجّان الأكبر طوال أكثر من 40 عاماً. اكتشافات مشابهة قرّبتنا من تونس وليبيا، مصر واليمن والسودان، وحتى لبنان حيث ولدنا وكبرنا وعشنا. الثورات أيضاً، عدا التمرد على ظُلم، هي ممر من وإلى الكينونات الجماعية والفردية التي يبرع الديكتاتور ومؤسساته في حجبها لكنه يفشل في قتلها. كذلك الأمر في إيران اليوم.

ثمة ما هو أبعد من التقليد الصحافي بالإضاءة على جوانب الحدث الاحتجاجي، وأكثر من النهج البحثي في منمنمات الفُرس وأفيشات الشاه وتاريخ الحضارة والعرب والمسلمين. ما بعد المتابعة الحثيثة للسينما المُحاصَرة، بحُكم اهتمامنا وبراعتها. ما بعد تلقّي الموسيقى الصادحة في زوايا الانترنت والداخل الإيراني ومنافيه، بالصدفة أو بالعَمد الفضولي. والفن التشكيلي. وما بعد الأدب الغارس في مكانه وملاجئه، واللسان الشعبي المدفون تحت عباءات وعمائم، وحكايات الرقيب وتحدّيه والسخرية منه. وما بعد مُستورَدات الإيديولوجيا التي أنبتت مليشياتها وخرابها بين ظهرانينا.

الثورة بالمُطلق -وثورة الإيرانيات والإيرانيين ليست استثناء- هي أيضاً حفريات معرفة. بها وبسببها، يُنفض الغبار عما كنا نعتقد أننا نعلمه ومتبحّرون فيه، ويُستخرَج المطمور في بطن الأرض المُستولى عليها ِغلاباً.

قبل الثورة، يبدو الإطلاع والاحتكاك المشروط بمقنّنات الحاكم الكُلّي، أقرب إلى منهجية فهم ما يُقال كظواهر وإشارات. والقَول هو قَول مُخرِج في فيلمه، روائي في كتابه، موسيقي، مؤرّخ، أو حتى فرد بلا إسم يمشي في الشارع. لكن، بعد الثورة، تتحرر العِبارة، أياً كانت ماهية كلماتها. تصبح بياناً. ويمسي كل ما يتسرّب من منبع الثورة على الظلام، خطاباً ذا مغزى. لا خطاب رطانة، بل بُنيَة معنى. فعل كالسِّحر.

فعل الرفض الأهلي، بعد أن يقول ثورته ويغنّيها ويصوّرها ويتحايل على الحظر ليبثها إلى العالم، هذا الفعل يروح ينقسم على نفسه ويتوالد، يتفرّع ويتكاثر. وتكثر في أيدينا أدوات التنقيب التي تنبش قبوراً ما عادت تلتزم الصمت. فإن كانت أركيولوجيا المعرفة ترتكز على تحديد المعنى الخطابي للتعبير، من خلال العبارات التي تسبقه وتليه، وإن كانت الثورة هي الخطاب، فإن المُعبِّرات من قبل ومن بعد تأخذ من الثورة معنىً وتعطيها.

ما عادت هي نفسها أغنية محسن نامجو حيث يقول: "لنا شارع الشهداء، ولنا فضلات الطعام، النسخات المقرصنة من فيلم العرّاب ملكنا، وفريق كرة القدم الخاسر هو خاصتنا، النّقد البناء هو نصيبنا، والغد ربّما ملكنا". ويوم أطلق أغنيته هذه، كان محمد خاتمي هو رئيس الجمهورية الإسلامية الإيرانية، عهد التيار الإصلاحي الذي عُقدت عليه آمال، لكن نامجو خاطبه مغنياً: "كل ما تقرأه في قلبك هو لك.. العقائد الكانطية الجديدة لي". هذه الأغنية اليوم، وكتابات آذر نفيسي، وسينما المسجونين جعفر بناهي ومحمد رسول آف ومصطفى آل أحمد، وأطنان مزيدة من الإبداعات و"البيانات"، تنزع الحجاب عن رأس أمّة بكاملها، رغم أنها سبقت ثورة حرق الأغطية وقصّ الشعر والموت تحت التعذيب. وهذا لم يكن فقط حجاب نظام الملالي. ولا بالضرورة حجاب جهلنا بـ"القوّال"، المبدع أو الحدث، إذ التمع قوّالون في الضوء رغم كل شيء. بل حجاب اللحظة التي لم تكن قد حانت، والآن فَعَلت.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها