الجمعة 2022/10/07

آخر تحديث: 15:40 (بيروت)

ثورة الغناء الإيراني: "لكَ ما تقرأ.. والعقائد الكانطية لي"

الجمعة 2022/10/07
ثورة الغناء الإيراني: "لكَ ما تقرأ.. والعقائد الكانطية لي"
محسن نامجو
increase حجم الخط decrease
تحمل الموسيقى في إيران سمة ثورية متأصلة، سواء وطأت ميدان السياسة أم لا، مردّها الى موقف نظام الملالي الذي يتراوح بين الحظر والتحريم، وبين الإباحة الجزئية المشروطة بألف شرط وقيد. لكن بقدر ما تحكم هذه الآلة الرقابية قبضتها على الأصوات المحلية، فهي تستفزّ بالدرجة نفسها فناني الشتات، وهم كثر، على إنشاد الثورة والتغيير، من أمكنتهم في منافيهم. أما السلاح السري لهذه المقاومة الثقافية فعنوانه الشِّعر، والإرث الشعري الغني لبلاد فارس الذي لم تقوَ سنوات الجمهورية الاسلامية الأربعون على محوه.

محسن نامجو: بوب ديلان إيران
يعدّ محسن نامجو أيقونة الثورة الموسيقية الإيرانية، وهي ثورة ساهم النظام الإيراني نفسه في خلقها وتعزيزها. فالتجديد الذي أدخله نامجو على الموسيقى الفارسية التقليدية ببث عناصر غربية فيها، من موسيقى الجاز والروك والفولك، ما لبث أن تحوّل من ثورة على الشكل الى ثورة في المضمون، وذلك بعدما تمّ تجريمه ونفيه بشكلٍ غير مباشر خارج ايران، على خلفية تلحينه سورة قرآنية. واذا أضحى نامجو خارج أسوار الجمهورية الإيرانية فتحرّر من ضوابطها الرقابية، اتّخذ تمرّده الموسيقي منحىً سياسياً صريحاً، لا يقتصر على إنشاد الثورة والمناداة بها، بل إنه يتضمن نقداً اجتماعياً وثقافياً لاذعاً لإفرازات النظام الإسلامي.


إن موهبة نامجو الشعرية التي تتجلّى في كلمات أغنياته، على خلفية موسيقية فولكلورية، حملت الصحافة الغربية على وسمه بلقب "بوب ديلان إيران". هي موهبة تختلط فيها السخرية بالميلانكوليا، معبّرةً عن واقعٍ سياسي هزلي حدّ الألم. في أغنيته "عقائد نيو-كانطية"، يصف نامجو مُعاش المجتمع الإيراني عبر خساراته؛ ما سُلِب منه وما مُنع عنه فأضحى كلّ ما يملكه.

يغنّي نامجو قائلاً: "لنا شارع الشهداء.. ولنا فضلات الطعام.. النسخات المقرصنة من فيلم "العرّاب" هي ملكنا.. وفريق كرة القدم الخاسر هو خاصتنا.. النّقد البناء هو نصيبنا.. والغد هو، ربّما، ملكنا". ينهي نامجو برسالةٍ الى النظام (ممثلاً بشخص الرئيس خاتمي آنذاك) الذي يؤدلج مواطنيه على عقيدة قسرية، فيتوجّه اليه بالقول "كل ما تقرأه في قلبك هو لك.. العقائد الكانطية الجديدة هي لي".

الملفت في أسلوب نامجو الشعري هو ابتعاده عن رومانسية المُثل والشعارات الثورية الرنانة والفضفاضة. فهو لا يجعل من المجتمع الإيراني المضطهد موضوعاً رومانسياً، بل يعرّيه ويفضح توغّل السلطة في كافة وجوهه ومستوياته، على نحوٍ ساخرٍ لا يخلو من المرارة. بهذه المرارة، يصف نامجو الظلم الواقع، ليس على الإيرانيين فحسب، بل على كلّ من قُدّر له أن يولد ناقص الحظّ في أوطان فاقدة للحرية والخبز. فيردّد في أغنية "الحتمية الجغرافية": "أن تولد في آسيا، فهذا يسمّى الاضطهاد الجغرافي. تجلس وساقيك مرفوعة في الهواء، وقد أضحى فطورك الشاي والسيجارة". 


وقد قام نامجو بتلحين سورة "الشمس"، على وقع ايقاعات الروك، مطعّماً اياها بأبيات شعرية من قصيدة "كلمات" لنزار قباني تغنيها ماجدة الرومي. ورغم اعتذاره عن تسريب الأغنية التي لم يكن مقرّراً لها أن تخرج الى العلن، أصرّ النظام في إيران على تجريمه وسجنه، ففرّ نامجو الى أوروبا حيث سجل الأغنية مع أوركسترا إيطالية، محوّلاً ما بدأ كدعابة الى وسيلة للتحدي والمقاومة.

شاهين نجفي: الغضب ضد الآلة
إن كان محسن نامجو هو، في نظر صحيفة "نيويورك تايمز"، بوب ديلان مع عود، فإن شاهين نجفي، هو بحسب اسقاطات الجريدة نفسها، النسخة الفارسية من فرقة Rage Against the Machine، التي تترجم بالغضب ضدّ الآلة، والآلة في هذا السياق هي آلة نظام الملالي القمعي. فبعيداً من أسى البلوز وميلانكوليا الأنغام الشرقية، اختار نجفي لتعبيره الثوري قالباً أكثر مباشرةً وصراحةً في ترجمته للغضب من خلال ايقاعات الهيب هوب وغناء الراب.

قبل هجرته الى ألمانيا في العام 2005، شكّل نجفي رِفقة طلاب الجامعة، فرقة موسيقية، مُنِعت من الأداء بعد عرضها الثاني، بحجة إهانتها للدين الإسلامي. أما الفرقة الإيرانية التي انضم اليها في ألمانيا، فقد اتهمتها صحافة النظام الرسمية بالفظاظة والترويج للأفكار الماركسية. وبعيد انتفاضة 2009، أصدر نجفي عدداً من الأغاني التي تخلّد ذكرى وأسماء ضحايا العنف البوليسي، منها أغنيتا "ندى" و"حين ينام الله".

وفي أغنية "حياتنا حياة الكلاب" (Doggy Life)، التي يواصل فيها نجفي تقليده الساخر بالتلاعب الكلامي للمزج بين المقدسات الدينية والايحاءات الجنسية (وضعية "دوغي ستايل" الجنسية)، يقول نجفي "إخرس، تقبّل الوضع، فهذا ما بشّر به الرسول، إقبَل، رجلاً كنت أم امرأة، لا فرق، مُتْ، هذه حياتنا- حياة الكلاب".

ويتجلّى حسّه الساخر بقوّةٍ في أغنية "period" (الدورة الشهرية) التي يؤديها برفقة نامجو، والتي تصف السطوة الشاملة للنظام الايراني على المجتمع والدين والثقافة، وحتى الجنس والجسد، وذلك من وجهة نظرٍ أنثوية ونسوية. تُشبِّه الأغنية تجربة المرأة، في ظلّ الجمهورية الاسلامية، بـ"ألم ما بين الرجلين"، وتشبّه قمع الحرس الثوري الذي ينتزع من المرأة جسدها، بوجع إزالة الشعر. كما تفضح نفاق المجتمع الذي يحظر الجنس علانيةً، ويبيح، في السرّ، بغاء القاصرات والزنا في الأماكن المقدسة. يتحدّث نجفي عن شغف المجتمع الإيراني المحافظ بالموت، تقابله رغبة شهوانية بالجنس الشرجي المحرّم.

تصوّر الأغنية تجليات النظام السياسي في اليوميات العادية للمواطنين الإيرانيين، "عشاق الحسين الثائر" و"الأتباع العصريين للموضة الخمينية البائدة"، الذين يقضون أوقاتهم بين "شارع شريعتي وسجن ايفين"، ويشاهدون "سينما بائسة لولا أفلام بناهي" (يقصد المخرج بناه بناهي). وإن أردنا وصف هذه الأغنية بمفرداتها الوقحة، فيمكن القول بأنها الأصبع الوسطى ممدوةً في وجه الخنصر الناهي لرجالات الدين والسياسة، تماماً مثلما فعلت تلميذات في مدارس إيران. فبالرغم من موانعهم ومحظوراتهم، المجتمع الإيراني هو "نحن، الأخوات المحجبات، المبللات تحت اللحاف". وبسبب موانعهم ومحظوراتهم، المجتمع الإيراني هو "مجتمع متمحور حول القضيب ومهووس بما تحت السرّة".

وقد وصل به التمادي في تحدّي السلطة الدينية الى اصدار أغنية هزلية بعنوان "النقي". وكأن لديه رغبة خفية ليُلقي نفسه بيده -او بالأحرى بصوته- الى التهلكة. يتجرّأ نجفي على جمع كافة مقدسات ومحرّمات النظام الإسلامي في أغنية واحدة، يحلف فيها باسم "النقي"، وباسم "الخميني الذي خرج من بطن أمه وهو يصيح يا علي!"، وباسم "العقوبات الاقتصادية والدولار الذي ترتفع قيمته"، وباسم "الحب والفياغرا والأثداء الاصطناعية" (الخ..). يحلف نجفي بكل هذه الرموز التي تلخص واقع المجتمع الإيراني مناجياً الإمام الظهور "فنحن جاهزون في أكفاننا، يا نقي". 

وبالطبع، تسبّبت هذه الأغنية لنجفي بفتوى قتل وجائزة مادية قيمتها 100 ألف دولار لمن يهدر دمه. وقد مكث لفترة في حماية الصحافي الألماني نفسه الذي قدّم ملجأً لسلمان رشدي من قبله، لكنه رفض البقاء مختبئاً لمدّة عقد، "لأنني موسيقي، ولا بدّ لي من الأداء".

غناء النساء: ثورة في حذا ذاته
أما على الجبهة النسائية، فيعدّ غناء المرأة ثورة تلقائية، في ظلّ التحريم والحظر الرسمي. ولم يكن "صوت إيران"، وهو اللقب الذي تحمله أيقونة البوب الإيرانية غوغوش، مُستثنىً من هذا التحريم الذي أسكته طوال عقدين من الزمن، قبل أن تتخذ النجمة قرار مغادرة إيران العام 2000 واستئناف مسيرتها الغنائية والتمثيلية التي كانت في ذروتها قبل اندلاع الثورة الإسلامية في بلدها. وخلال الانتفاضة الخضراء، انضمت غوغوش الى زملائها من فناني المنفى الذين دعموا ثورة بلادهم بالاحتجاج والانتاج الفني.


وأصدرت غوغوش آنذاك أغنية بعنوان "انني الإيران نفسها"، حيث تصف المغنية تجربة المنفى والشوق الى الوطن، ممزوجاً بشعور الذنب الذي يتملّك مَن نجا دون غيره. وتعير غوغوش حنجرتها للسان وطنها الذي هجره أبناءه فراح يخاطبهم "حين غادرتم، بكيت في الموسم الحزين.. يا أطفالي الأعزاء، ماذا حدث للقاء؟ .. لقد سئمت قبلة السوط، ولم يبقَ مني سوى قفص على شكل قطة.. أتسمعونني؟ إنني إيران وما زلت أتساءل ما الذي حدث.. هل اعتدتم على اللجوء والحنين الى الوطن؟ لا تنسوني، فإنني مدمّرة".

أما اليوم، وعلى وقع التحركات النسائية الساخطة، فقد استعار المنتج والمغني شيرفين هاجيبور صوت النسوة لكتابة نشيد للحراك بعنوان "من أجل..". وقد جاءت الأغنية من تريند في مواقع التواصل أخذ فيها المحتجون يجيبون عن سؤال "من أجل ماذا تحتجون؟"، فقام هاجيبور بجمع هذه الاجابات، وألّف منها أغنية عمد الى نشرها عبر حسابه في "انستغرام"، فداهمت القوى الأمنية منزله وأجبرته على حذفها، في خطوةٍ سخيفة لا طائل منها، باعتبار أن الأغنية كانت قد انتشرت في كلّ مكان.

وقد أعطت هذه الأغنية المنبر للإيرانيين من أجل التعبير عن معاناتهم وتطلعاتهم، من "الرقص في الشارع" و"تقبيل الحبيب دون خوف"، وصولاً الى الرغبة "بحياة طبيعية" و"نظام اقتصادي خارج عن قبضة الدولة" و"عدم الاضطرار للذهاب الى جنتهم الإلزامية".

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها