الجمعة 2022/10/07

آخر تحديث: 13:42 (بيروت)

آني إرنو: مارستُ الجنس لأرغم نفسي على الكتابة

الجمعة 2022/10/07
آني إرنو: مارستُ الجنس لأرغم نفسي على الكتابة
يصدر قريباً كتاب "الشاب" عن "منشورات الجمل"
increase حجم الخط decrease
يصدر قريباً عن منشورات الجمل، كتاب "الشاب" للروائية الفرنسية الفائزة بجائزة نوبل للأداب، آني إرنو، بترجمة مبارك مرابط، الذي يقول في تقديم الترجمة: "في هذا النص السردي الذي بين يديك، تحكي الكاتبة الفرنسية "آني إرنو" (1940-) مغامرتها مع شاب يصغرها بحوالى 30 عاماً. مغامرة دامت حوالى أربع سنوات من زمننا الخطي، تحكيها في نص قصير جداً، لا يزيد طوله عن 3400 كلمة في الترجمة العربية، وأكثر بقليل في النسخة الأصلية، وطويل جداً في الآن ذاته لأنه يغوص عميقاً في الذاكرة ويسائل الزمن الفردي والزمن المجتمعي.

تتعرف الساردة/الشخصية الرئيسية/الكاتبة، على "أ"، طالب الأدب الذي كان يكاتبها ويطلب لقاءها، فتنخرط معه في مغامرة جنسية، تسترجع من خلالها الفتاة التي كانتها كطالبة. كان يأخذها إلى المقاهي والحانات التي يتردد إليها الشباب ويُعرِّفُها على رفاقه، بينما تصطحبه هي إلى الأماكن التي كانت ترتادها وهي طالبة. في هذه المغامرة سينتزعها من جيلها، من دون أن تفلح في الدخول إلى جيله. وسترصد عبرها نظرة المجتمع إلى هذا النوع من العلاقات التي لا يرى فيها مغامرة جنسية أو عاطفية أو حتى نزوة، بل يعتبرها "نوعاً من زنا المحارم"، كما تقول.

لم تكن أحداث مغامرتها مع "أ"، التي بثتها في ثنايا النص بسلاسة ماكرة، مهمة في حد ذاتها، بل ما أكسبها أهميتها هي تلك القدرة التي لدى آني إرنو على أخذ المسافة الكافية منها، وفي الآن ذاته الغوص عميقاً في تلك التفاصيل التي لا نعيرها اهتماماً، بل ولا نلمحها أصلاً. تماماً كما يفعل العارف بخبايا التشكيل أمام لوحة معروضة أمامه. ينظر إليها كوحدة كاملة، وفي الآن نفسه يدقق في تفاصيلها وضربات الريشة وتدرجات الألوان ورقصات الظلال. أي كل تلك الأشياء الدقيقة التي تفلت من العين غير المتمرسة، أو لنقل العين "العادية".

في "الشاب"، تؤكد آني إرنو على هذه "المعادلة الفزيائية" بالنسبة إليها، قبل البدء في سرد حكايتها: "إن لم أكتبها، لا تبلغ الأشياءُ مداها، وتظل مجرد أشياء عشتها". فحكاية آني مع "أ" لا تبلغ مداها، بل لا يتحقق وجودها أصلاً ما لم تكتبها الكاتبة إرنو.

ننشر هنا مقطعاً من الكتاب بالاتفاق مع الناشر...

***

إن لم أكتبها، لا تبلغ الأشياءُ مداها، وتظل مجرد أشياءَ عشتها 

قبل خمس سنوات، أمضيت ليلة خرقاء مع طالب كان يكاتبني منذ عام، ويرغب في لقائي.

غالباً ما مارست الجنس لأرغم نفسي على الكتابة. كنت أتمنى أن يجعلني التعبُ والتيهُ الذي يلي الوصال الجنسي مستغنياً عن أي شيء من الحياة. كنت أتطلع إلى أن تجعلني نهاية اللهفة الأكثر عنفاً -لهفة بلوغ الرعشة- متيقنة من أن نشوة الكتابة لا تفوقها أي نشوة أخرى. لعل هذه الرغبةَ في قدح شرارة تأليف كتاب -كنتُ مترددةً في مباشرته نظراً لجسامته- هي التي دفعتني إلى مرافقة "أ" إلى بيتي لاحتساء كأس، بعد تناول العشاء في المطعم حيث ظل، من فرط الخجل، أخرس تقريباً. كان يصغرني بحوالة ثلاثين عاماً.

 

صرنا نلتقي، بعدها، في نهايات الأسابيع. وكنا نشتاق كثيراً إلى بعضنا البعض في الأيام التي تفصل بينها. أخذ يهاتفني كل يوم من هاتف عمومي حتى لا يثير شكوك الفتاة التي يعيش معها. فلم يتخيلا قط -وقد علِقَا في شرك روتين حياة مشتركة مبكرة، وانشغلا بهموم الامتحانات- أن ممارسةَ الجنس قد تكون شيئاً آخر غير إشباع رغبة، بطريقة أقل أو أكثر بطء.. قد تكون نوعاً من الإبداع المتواصل. كان الحماس الذي يبديه أمام هذا الشيء الجديد عليه يزيد من تعلقي به أكثر فأكثر. شيئاً فشيئاً، صارت المغامرة قصة حقيقية كانت تحدونا الرغبة في عيشها إلى نهايتها، من دون أن نعلم حقاً ماذا يعني ذلك.

 

بعد انفصالِه عن صديقته -وهو ما كان مبعث ارتياحي ورضاي- ومغادرتِها الشقةَ، دأبتُ على زيارته من الجمعة مساء إلى الاثنين صباحاً. كان يقطن في "روان"[1].. المدينة حيث كنت طالبة في الستينيات، والتي كنت فقط أعبرُها، طيلة سنين، لزيارة قبريْ والدي في "إ". فور وصولي -وبعد التخلص في المطبخ، من المشتريات التي حملتُ معي- نمارس الجنس. تكون أسطوانة ليزر قد وُضِعت مسبقاً في جهاز ستيريو، ويتم تشغيلها فور دخولنا إلى الغرفة. غالباً ما تكون مجموعة الـ"دورز". في لحظة ما تغيب عن مسامعي الموسيقى.

 

تصلني مجدداً أوتار أغنية "SHE LIVES IN THE LOVE STREET"، وصوت "جيم موريسون"[2]. نظل مُستلقيَيْن فوق المرتبة الموضوعة على الأرض. تكون حركة المرور كثيفة في تلك الساعة. تلقي أضواء السيارات بأنوارها على جدران الغرفة من خلال النوافذ العالية التي لا ستائر لها. يداهمني شعور بأنني لم أغادر قط السرير، السرير نفسه منذ الثامنة عشرة، لكن في أماكن مختلفة ومع رجال مختلفين، ومع ذلك لا يمكن تمييز بعضهم عن بعض.

 

كانت شقتُه تُطِلُّ على "قصر الرب"[3]، المهجور منذ عام، والذي تجري فيه الأشغال لتحويله على مقر المحافظة. في المساء، تضاء نوافذ البناية، وغالباً ما تظل مضاءة طيلة الليل. كان الفناء المربعُ الكبيرُ في مقدمتها، ساحةً من الظلال الخفيفة والفارغةً خلف الأبواب الحديدية المغلقة. كنت أرى الأسقف السوداء، وقُبَّة كنيسة تطفو هناك في العمق. لا أثر لأي أحد باستثناء الحراس. إلى هذا المكان، هذا المستشفى، تم نقلي، وأنا طالبة، في إحدى ليالي كانون الثاني بسبب نزيف ناجم عن إجهاض سرّي. نسيتُ في أي جناح كانت تقع الغرفة حيث أمضيتُ ستة أيام. كان في ثنايا هذه الصدفة المذهلة، الفريدة ربما، أمارةٌ على أن هذا لقاءٌ غير عاديٍ وقصةٌ يتحتم علي عيشُ تفاصيلها.

 

في الآحاد خفيفة المطر، بعد الظهر، نظل تحت الغطاء، حتى يأخذنا النعاس. من الشارع الصامت كانت تصلنا أصوات العابرين القلائل، غالباً ما يكونون من المهاجرين القاطنين بمركز للاستقبال في الجوار. في تلك اللحظة يغمرني إحساس بأنني طفلة في "إ"[4]، أقرأ، وأنا بجانب والدتي التي غلبها النوم من فرط التعب وهي على السرير بكامل ملابسها، يوم الأحد بعد تناول الغذاء وإغلاق محل البقالة. كنتُ أفقد الإحساس بالسِّن، وأتطوح من زمن إلى آخر، وأنا في نصف وعيي.

 

استعدتُ في بيته تلك الحياة المتقشفة والاستقرار الهش الذي عشت في خضمه في بداية حياتي مع زوجي، ونحن طالبَين. على الصفائح الكهربائية، التي تعطل ضابط الحرارة فيها، لا يمكن لنا سوى طهو شرائح اللحم -التي قد تلتصق بالمقلاة في أي لحظة- والمعجنات أو الأرز في إناء طافح. كانت الثلاجة التي يصعب التحكم في درجة برودتها تجمد الخس في درج الخضراوات. وكان يجب ارتداء ثلاث كنزات لتحمل البرودة الرطبة للغرف -ذات الأسقف العالية والنوافذ غير المُحكَمَة- التي تستحيل تدفئتها بسخانات كهربائية في حالة متردية.

 

كان يأخذني إلى الـ"BUREAU" والـ"BIG BEN"، وهما مقهيان يرتادهما الشبابُ كثيراً. ويدعوني إلى مطعم "JUMBO". إذاعته المفضلة هي "EUROPE 2". ويشاهد كل مساء برنامج "NULLE PART AILLEURS". في الشارع، كان الناس الذين يتبادل معهم التحية من الشباب، وفي الغالب طلبة. لما يتوقف للحديث معهم، أتنحى جانباً. كانوا يلقون علي نظرة خاطفة. بعدها، يحكي لي عن المسار الجامعي لمن صادفناه للتو، مفصلاً في نجاحاته أو إخفاقاته. في بعض الأحيان، يشير، من بعيد وخلسة -يطلب مني ألا ألتفت- إلى أستاذ من أساتذة كليته. كان ينتزعني من جيلي من دون أن أفلح في الولوج إلى جيله.

 

كانت غيرته الشديدة -اتهمني بأنني استقبلت رجلاً في بيتي فقط لأن مقعد المرحاض كان مرفوعاً- تُبعدُ عني أي ميل للشك في مدى شغفه بي، وترفع إلى مرتبة السخف ذلك اللوم الذي كنتُ أتصور أن أصدقاءَه يلقونه عليه: "كيف يمكنك الخروج مع امرأة توغلت في سن اليأس؟".

كان يغمرني باهتمام لم أحظ به قط، وأنا في الرابعة والخمسين، من طرف أي عشيق سابق.



[1] "روان" (ROUEN)، العاصمة الإدارية لمنطقة "نورماندي" تقع على بعد حوالي 140 كلم إلى الغرب من باريس

[2] "جيم موريسون" (JIM MORRISON) (1943-1971) أشهر وجوه مجموعة "الدورز" وأحد مؤسسيها

 ويمكن ترجمة عنوان الأغنية بـ: "تعيش في شارع الحب".

[3] "قصر الرب" (HOTEL-DIEU) مستشفى سابق بـ"روان" تحول منذ سنوات إلى مقر لمحافظة "سين ماريتيم" وجهة "نورماندي"

[4] "إ" الحرف الأول لاسم مدينة "إيفيتو" حيث ترعرعت آني إرنو، وهي لا تبعد كثيرا عن "روان" في غرب فرنسا.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها