الخميس 2022/10/06

آخر تحديث: 12:31 (بيروت)

تحجيب الثقافة: الرقيب الإيراني مُرشداً أعلى للشخصيات الروائية

الخميس 2022/10/06
تحجيب الثقافة: الرقيب الإيراني مُرشداً أعلى للشخصيات الروائية
increase حجم الخط decrease
تُعنوِن غولينه أتاي، الصحافية والكاتبة المولودة في طهران، كتابها "إيران - الحرية أنثى"، وتقول إن "الملالي يخشون النساء أكثر من خشيتهم خصومهم الإيديولوجيين"، وتؤكد أنَّ أسوأ شيء في إيران لا يكمن مطلقًا في الواقع، أي في حقيقة أنَّ الناس معرَّضون منذ أكثر من أربعة عقود لخطر التعذيب والسجن والموت لأسباب تافهة، بل إنَّ أسوأ شيء في الحقيقة هو أنَّ "الجمهور الغربي لا يصله سوى القليل - أو حتى لا شيء - مما يحدث كلَّ يوم في إيران". وهذه الفجوة بين عنف الأحداث ونقص العناوين في وسائل الإعلام، تلقي بثقلها الكبير على الناس في إيران، خصوصاً على النساء، بحسب تعبير غولينه أتاي. وهذا يجعلهم يشعرون بأنَّهم وحيدون في وضعهم المأسوي.

في المقابل يريد نظام الملالي أن تكون صورة إيران على "صورة امرأة منقّبة"، معزولة عن سياقها وعن مسار الحياة وألوانها وتعدديتها وتوجهاتها. بالتالي يمكن القول إن ما يحصل في الشارع الإيراني، على خلفية مقتل أو قتل الشابة الكردية مهسا أميني، هو ثقافة في مواجهة ثقافة. ثقافة الناس العاديين والأفراد في مواجهة ثقافة الملالي والذهنية الشمولية، ثقافة الحرية في مواجهة ثقافة "الأخ الأكبر"، ثقافة الانفتاح والتواصل في مواجهة ثقافة الحجاب والعزل.

لا ريب في أن الثقافة الخمينية على مدى أربعة عقود، فعلت فعلها في إيران، حوّلت بلاد الشعراء (عمر الخيام وحافظ الشيرازي، حتى الخميني كان يكتب الشعر)، إلى بلاد الباسدران والباسيج، بل حولت كل شيء إلى مشروع حربي وأذرع ثورية ومليشيات من المحيط إلى الخليج. وكثيرة المقالات والتصريحات التي تظهر كيف تركت عقود القمع والاضطهاد التي يعيشها الكتَّاب المستقلون في إيران، وكذلك ترسيخ الثقافة الرسمية الموحَّدة، بصماتها على الكتَّاب هناك، حيث تزداد، في أجواء الخوف المنتشر، الرقابة الذاتية، لا سيما بين الكتَّاب الإيرانيين الشباب. فعدا عن تطويق أجساد النساء بالحجاب وقمعهن ومنعهن من ممارسة حريتهن وحركاتهن، وبالتالي عيشهن تحت رقابة "الأخ الأكبر"، كان هناك الحجاب على الأفكار والثقافة وسطوة مقص الرقيب، سواء على السينما أو الموسيقى أو الشعر أو الرواية. وأبرز العلامات على ذلك، ما كتبته آذر نفيسي، وسبق أن ألقينا الضوء عليه أكثر من مرة. إضافة إلى ما كتبه الروائي شهريار مندني بور في روايته "قصة حب إيرانية تحت مقص الرقيب" (ترجمة خالد جبيلي، منشورات الجمل) والتي تدور حول فكرة واحدة فقط، هي أن كاتباً إيرانياً يريد أن يكتب قصة حب في إيران، والسيد بتروفتش، الرقيب والمسؤول عن المطبوعات، يراقب كل كلمة يكتبها، ويطلب إليه أن يعدّل الأحداث والمواقف والشخصيات بما يتناسب مع "عادات وثقافة المجتمع الإيراني" والثورة الإسلامية.

يقول الروائي: "إن معضلتي هي أنني أريد أن أنشر قصة الحب التي سأكتبها في وطني.. وبخلاف العديد من البلدان في العالم، فإن كتابة قصة حب ونشرها في بلدي الحبيب إيران ليسا بالأمر الهيّن". ثم يتابع بوحه عن صعوبة كتابة حب في بلد مثل إيران، بسخرية مبطنة، وكأن مقص الرقيب على رقبة كلماته: "في أعقاب انتصار إحدى ثوراتنا الأخيرة، التي صمّت الكون بصيحاتها للحرية بمساعدة أجهزة الإعلام الغربية للتعويض عن 2500 سنة من الحكم الديكتاتوري على أيدي الملوك، كُتب دستور إسلامي، ويسمح هذا الدستور الجديد بطباعة ونشر جميع الكتب والمجلات، ويمنع ممارسة الرقابة عليها بشدة وتدقيقها، لكن لسوء الحظ، لا يذكر دستورنا ما هي الكتب والمنشورات التي يُسمح لها بمغادرة أبواب المطبعة بحرية!".

من هنا تبدأ الحكاية في رواية مندني بور، فثمة سارد يحلم بممارسة حريته على الورق، يهمس كيفما يشاء أو يصرخ، يخلق شخصياته من العدم أو من الحياة، يجعلها تتحدث بأحلامها وهمومها، تنتقد وتقول ما تريد. لكن ثمة "رقيباً" في الظل، لن يسمح للشخصيات القصصية ولكاتبها بذلك، لن يدع الكائنات الورقية تفارق سجن المخطوطة، لن يسمع للخيال أن يولد. وحتى إن طُبعت تلك المخطوطة، فلن يسمح بتوزيعها في المكتبات، وربما يأمر بمصادرتها، إذ يعتبر نفسه حارس الفضيلة والأخلاق، ومفوضاً سامياً من حق مقصّه الرقابي أن يشذب ما شاء من خيالات الكتّاب والمبدعين. بمعنى آخر، نظام الملالي الكاره للإنترنت وثقافة الآخر، أبرم رقابة تشبه الأخطبوط، تمارس سطوتها وسلبطتها على أكمل وجه، سواء على الحياة العادية أو الحياة الخيالية. على اللواتي يرفضن ارتداء الحجاب، أو على الذين يكتبون قصة.

مقص الرقيب المسلط دوماً على قلم الشاعر أو الروائي، يجبره على التزام لغة معينة ومجازات مختلفة. مثلاً، حُذفت كلمة "مومس" من معجم اللغة الفارسية، واستُبدلت بـ"السيدة غير المحصّنة". ومنع السيد بتروفيتش، الكاتب، من كتابة عبارة "الأوراق تتساقط عن الأشجار وهي ترقص"، وطلب إليه أن يحذف كلمة رقص لأنها تُعتبر سوقية ومحرّمة. كما أن الرقيب يحذف عبارة "يولج سائق الدراجة النارية خرطوماً بلاستيكياً في خزان بنزين لشاحنة صغيرة" لدلالاتها الجنسية الواضحة. وهذه الرواية، وإن كانت تبدو افتراضية، للوهلة الأولى، فهي في الجوهر تنقل الصورة الإيرانية كما هي. فبحسب الكاتب فرج سركوهي، "الرقابة في إيران ذات طابع سياسي وديني وأخلاقي معنوي. والعبارات الممنوعة لا تنحصر في المجال السياسي، بل تشمل أيضًا كلَّ تعبير يوصف بأنَّه "غير أخلاقي"، مثل علاقات الحبّ وغرفة النوم والقُبلات أو الخَمر. وتُجرى التغييرات في مضمون العمل على المستوى الفلسفي النظري والسياسي، وعلى المستوى الأخلاقي المعنوي، وحتى على المستوى الديني. في القصص والروايات، لا يكتفي الرقيب بحذف فقرات كاملة، بل يُحدّد بعض الصفات والآراء والسلوكيات المعيَّنة لأبطال العمل. وتتم أحيانًا إضافة فقرة، تجعل شخصين غير متزوجين في رواية ما، في حالة الزواج، وذلك لكي تكون علاقتهما متوافقة مع أحكام الشريعة الإسلامية.

وكان الباحث الاجتماعي، أحمد ‏رجب زاده، العام 1996، قام بدراسة ألف و400 وثیقة وکتاب، لم تمنحها ‏مؤسسات الرقابة ترخيصاً، ونشر البحث في کتاب بعنوان "تقییم الكتب"، وجاء فيه: "من ‏المفردات التي لم تتجاوز حصن الرقابة هي: عاشق، فاتنة، قُبلة، نبيذ، ‏فقر، أفیون، نظرة نقدیة تجاه الوضع الموجود، الشؤون الجنسیة، العلاقة بین ‏الطبیب والمریض".‏

تبدو الرقابة الإيرانية نكتة سمجة، ووقحة وفجة وقاتلة. فهي تتدخل حتى في نوايا أبطال القصة أو الرواية، ولا تقتصر على جملة أو عبارة نابية أو مشهد جنسي. تجعل أي كاتب إيراني، إما متماهياً مع متطلبات النظام وبالتالي يولد نصه ممسوخاً وخالياً من أي بُعد درامي أو معرفي أو حياتي، أو يهاجر إلى خارج الحدود بحثاً عن حريته. شهريار مندني بور التقط هذه المعضلة وأظهرها في روايته، ورصد الصراع الدائر بين الحركة الإيديولوجية الثيوقراطية، ونزعة التفرد والإستقلالية والإنعتاق الفكري وحرية التعبير التي يطمح إليها أبطال الرواية، والتي يمثلها الكاتب من خلال عملية السرد، والخطاب الروائي الساخر الذي يؤلفه. يكتب في أحد مقاطع الرواية:

"قبل العرض الخاصّ، يقول الخبير في الشؤون المتعلقة بالمبادئ الأخلاقية:
سيدي، أنا ضد بثّ هذا الفيلم كلّية.
وعندما يُسأل عن السبب، يجيب:
لأن كلمة رقص تظهر في العنوان، وكما تعرفون فإن كلمة رقص نابية وبذيئة. 
فيقول دارا بصفته الخبير في الشؤون السينمائية:
لكن عنوان الفيلم هو: الرقص مع الذئاب. ولا عيب في عبارة الرقص مع الذئاب.
فيقول الخبير في الشؤون المتعلقة بالمبادئ الأخلاقية:
الرقص رقص. هل تظن أن الإيرانيين سيفكّرون بالرقص مع الذئاب عندما يسمعون كلمة رقص؟ سيخطر في بالهم على الفور الرقص الشرقي العربي. أما الذين يقلّدون الغرب، فستخطر لهم رقصة التانغو، وفي اللحظة التي يفكّرون فيها بالرقص، فإنهم سيبدأون بالرقص في الحال... إن وزر خطيئتهم تقع على كاهلك يا أخي".

وبصفته ناقداً سينمائياً يتهكم مندني بور في روايته، على الأفلام والمسلسلات الإيرانية التي تعرضها التلفزة الحكومية، وتظهر فيها نساء المحجبات يغطين رؤوسهن في منازلهن، أو في كل الأوقات، كما لا يستطيع فتى أو فتاة إيرانيان أن يقفا على الرصيف، ويحدق أحدهما في عيني الآخر.

حُكم الباسيج يقتل الحياة بمعناها العادي، ويجعلها سجناً كبيراً. والرقابة تطيح الثقافة، إذ يلجأ الشعراء والكتّاب إلى التلاعب بالألفاظ والصيغ اللغوية. ويلجأ الرسامون إلى الغموض للانعتاق من شبح الرقابة، ومثلهم السينمائيون. حتى النساء اللواتي يسعين لإبراز جمالهن، يعتمدن طرقاً ملتوية لإبراز هذا الجمال، في نظام جلّ ما يفعله هو تأبيد السّواد...
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها