تستذكر نفيسي بأسى بالغ إحدى معلماتها (الدكتورة باساري) التي عُيّنتْ وزيرة للتربية "وعُهِد إليها تطهير المناهج من كل ما يحط من قدر الفتيات والنساء. بعد الثورة اعتقلوها – تقول نفيسي – وحكموا عليها بجريمة الفساد وشن الحرب على الله ونشر البغاء والعمل لصالح الإمبرياليين... وكانت طريقة موتها غامضة".
لا تستثير آذر نفيسي في هذه المذكرات القارىء كي يقع في شبكة الظن والتخمين، كلا، فهي أرادتْ لمذكراتها أن تكون ردّ فعل على بلادة ذلك الماضي الذي عايشته مع جموح الثورة الخمينية رغم كل الضوضاء الخاملة لهذه الثورة. فالأمر في بعض وجوهه أشبه بتقليب ألبوم صور ومحاولة القبض على ما قد يضيع من الذاكرة عبر إشباع العين بهذه الصور الكثيرة والمؤذية والتي، مع هذا، فإن التحديق بها واجب، وإلا، كما تقول، وقعنا في فخ المشاركة بالجريمة...". في ما بعد، تعلّمتُ أنه ليس مستبعداً أن تشعر الضحية بأنها مذنبة، والسبب الرئيسي إنها تغدو مشتركة في الجريمة من خلال صمتها".
على الرغم من محاولاتها إحالة جسد المرأة إلى خريطة للصمت، فإن الخمينية ظلتْ في هذا المحل أقرب إلى مجاز هش تنقصه المتانة، وما يجري في إيران اليوم يشكّل دليلاً ساطعاً. فسلسلة التمرد على موضعة جسد المرأة، بحسب الصياغة الخمينية للعالم، أثبتت أن جسد المرأة بالتصور الخميني له إنما هو في إيران بمثابة نمط من اللعثمة، من الكلام الفارغ وبرطمة الكلمات فوق ألسنة رجال الدين. فرغم كل أنظمة الصمت والأجهزة التي ترفد كل هذه الأنظمة في جهمورية الخميني الإسلامية، فإن النساء يُبيّن هشاشة هذه الأنظمة... لقد كفّ الإذعان للشرط الخميني عن أن يكون محل مراعاة من قِبل جيل ضخم من الإيرانيين والإيرانيات، فللأمر علاقة بكرامة الإنسان في العالم. تقول نفيسي: "إن عادة التظاهر بالإذعان للنظام خلقتْ نوعاً من الإنحلال الإخلاقي، كسلاً روحياً في داخل كل واحد منا".
بيد أن هذا التظاهر بالإذعان والذي يحاكي الصمت في بعض مضامينه، لا يني يتبدّل... فالصمت مقبرة، الصمت واد سحيق ترفضه بداهة الجسد المتسيّد للمرأة. فما من شيء سوى الصمت بوسعه احتضان هذا الكم من هيئات الرقابة على المرأة... ما من شيء سوى الصمت بوسعه احتضان هذه الجثث المتعفنة كما تقول نساء إيران اليوم.
تقول نفيسي في نصها الذي أرادته أن يكون جسداً محفوراً بكلمات الذاكرة، إن إيران الخميني هي لغز يصعب علينا حلّه، فحتى الدين الذي تلقفناه منذ مراحل طفولتنا تغيّر مع الخميني وصار "حكراً على أتباع آية الله الذين يطلقون على أنفسهم اسم حزب الله"... هذا ليس ديننا تقول، هذه ليست مدننا والبلاد لم تعد بلادنا، وقد باغتت الخمينية ألفة الناس لبعضهم البعض بإجراءات لم تشهدها إيران يوماً على حد قول نفيسي: "أُرغمتْ المطاعم على رفع يافطات فوق نوافذها تحمل عبارة، أقلية دينية، إن لم يكن أصحابها مسلمين".
لقد آن أوان الكلام...
بمقاطع عديدة من الكتاب تبدي نفيسي عدم التسامح مع نفسها بسبب "العجرفة" التي كانت تداخل شخصيتها حيال أتباع الخميني وإمكان وصولهم إلى السلطة، وهي "عجرفة" شاركها إياها كل أصدقائها من المثقفين على تنوع مشاربهم... "على الرغم من أن القوى العلمانية هي التي بدأتْ الإحتجاجات، إلا أن آية الله خميني وأتباعه برزوا الآن في إيران، لأننا كنا متعجرفين جداً...". تقول نفيسي أنها أرادت من الإشارة إلى هذه "العجرفة" أن تكون درساً.
ليس الجسد في مذكرات آذر نفيسي واقعة يمكن تجنبها، فالجسد في هذا المحل هو النص الذي يباغت أنظمة الموت... إنه بداهة الإحتجاج في الشارع والصوت الذي لا يمكن تجنبه في كل جنبات المدينة.
"كان والداي وأصدقاؤهما – تقول نفيسي – يتكلمون عن إيران بوصفها طفلاً محبوباً..."، فإذا بإيران الخميني عبارة عن معجم صمت، أجساد مقيدة وغلالة غبش تمكنت عبر فقه غريب عن إيران من تقزيم الأرواح إلى حدود البلادة أو السجن أو الموت... تقول لها إحدى صديقاتها: "كيف يمكنك أن تثقي بدين ما عندما يكون مسؤولاً عن كل شيء، من السياسة حتى مد أنابيب المياه في المباني؟!".
يخيّل للمرء أن مهسا أميني هي من بثّتْ آذر نفيسي هذه العبارة، فتاريخ النساء هنا لا يتوالى وكل نساء إيران في صراعهن مع الخمينية هن بمثابة امرأة واحدة. الجسد الذي يتلقى الرصاصة هو نص من نمط آخر، والنص الذي يعرّي التاريخ هو جسد من نمط آخر. تقول نفيسي في الصفحات الأولى من "أشياء كنت ساكتة عنها": "هذا الكتاب بمعنى من المعاني هو إجابة على أسئلة رقيبي الذاتي ومحققي الداخلي"، وهي تنهي مذكراتها بالعبارة التالية: "بعد الثورة الإسلامية بدأتُ أدرك هشاشة وجودنا الدنيوي والسهولة التي يمكنهم بها أن ينتزعوا منك كل ما تستطيع أن تسمّيه وطناً، كل ما يمنحك كياناً وهوية وإحساساً بالذات والإنتماء".
بالتالي، وبالعودة إلى السطور الأولى من هذه المادة الكتابية، من النافل أن يصدّق المرء آذر نفيسي وأن يصدق بداهة الجسد المقتول لمهسا أميني، وكل الأخريات من اللواتي لا نعرف عنهن شيئاً، لا أن نصدّق ترسبات الخميني في يومياتنا القاحلة...
يقول الروائي الإيراني، كيهان خانجاني، في روايته "قسم المحكومين"، أنه انتظر عشر سنوات حتى يجد الفرصة المؤاتية لنشرها. أما الرواية ذاتها، فتبدأ بمقطع يتضمن العبارة التالية: "فتح رجل باب قسم المحكومين ثم ألقى بداخله فتاة...".
والقصة لا تنتهي هنا...
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها