الثلاثاء 2022/10/04

آخر تحديث: 13:55 (بيروت)

الخمينية: من جسد آذر نفيسي إلى جسد مهسا أميني

الثلاثاء 2022/10/04
الخمينية: من جسد آذر نفيسي إلى جسد مهسا أميني
آذر نفيسي
increase حجم الخط decrease
تعليقاً على جريمة قتل مهسا أميني والاحتجاجات في إيران، صرّح أمين عام "حزب الله" حسن نصر الله بالتالي: إنه حادث غامض... الواقعة يتم استغلالها لتحريض المحتجين في الجمهورية الإسلامية، "هناك استهداف للجمهورية الإسلامية الإيرانية، يتم استغلال أي حادث، ولو كان غامضاً، ولو كان غير مفهوم، من أجل التحريض". واعتبر نصر الله، إن الاحتجاجات "لا تعكس الإرادة الحقيقية للشعب الإيراني "الوفي لقيادته".

أما الكاتبة الإيرانية آذر نفيسي، التي فُصلتْ من جامعة طهران في العام 1981 لرفضها ارتداء الحجاب، فتقول في الصفحات الأولى من مذكراتها: "جزء جوهري من الثقافة الإيرانية ألا نكشف قضايانا الشخصية، نحن لا ننشر غسيلنا القذر أمام... الناس"، لتشير في صفحات لاحقة من هذه المذكرات، ولدى تطرقها للحالة الخمينية، إلى أن الشعب الإيراني فشل في عدم نشر غسيله القذر، وذلك من خلال تقديم نفسه للعالم منذ العام 1979 عبر الخمينية (آذر نفيسي، "أشياء كنت ساكتة عنها"/مذكرات. منشورات الجمل 2014).

من النافل أن يصدّق المرء، نفيسي، إزاء الحدث الإيراني بجملته، لا أن يصدّق حسن نصرالله.

لا تسأل آذر نفيسي متلقّيها أن يسبر أغوار النص، ولا أن يستنطق المعاني المسكوت عنها التي تحايث هذه المذكرات، ولا أن يستحضر معنى يتجاوز ما تريد نفيسي أن تقوله في هذا الكتاب. ففي بعض مقاطع الكتاب، نرى المؤلفة أشبه بمَن يبث همومه لصديق مقرّب. فالكاتبة الإيرانية أرادت لهذه المذكرات أن تكون جسداً واضحاً محدد المعالم والقسمات، لا أن تكون محل طي وخفاء واحتجاب من جهة الدلالة والقول الصريح. اختارت المؤلفة لنصها أن يكون نمطاً آخر من السرد لا ينصاع لشروط واقع، أول شروطه وجوب إسكات ناسه، لا سيما النساء... فالصمت وبال في هذا السياق لأنه يجعل النسيان شريكاً.

ففي الكثير من المقاطع الأمر أشبه بحديث شفاهي لامرأة قد تيقّن لديها أن التاريخ شهوة الفجيعة والجنون، وإن أمكنة الإلفة في بلدها قد تحولتْ على غفلة إلى أمكنة تحدّق بقاطنيها بعيون الجفاء بل والعداوة... إنها إيران الخميني الآن.

"كانت ابنتي تحكي لي قصة، لمّا سمعنا فجأة صوتاً يصيح قائلاً: اضبطي حجابك... التفتُّ ورأيتُ شاباً يمشي وراءنا... هل أنتِ صمّاء؟ قال لي، وأردف: لا نريد عاهرات في هذا البلد، ألم تسمعي بقيام الثورة!!"

إنه المكان الذي أخذ يضيق بناسبه والجغرافيا التي قد سُوّرتْ بإحكام.

تستذكر نفيسي بأسى بالغ إحدى معلماتها (الدكتورة باساري) التي عُيّنتْ وزيرة للتربية "وعُهِد إليها تطهير المناهج من كل ما يحط من قدر الفتيات والنساء. بعد الثورة اعتقلوها – تقول نفيسي – وحكموا عليها بجريمة الفساد وشن الحرب على الله ونشر البغاء والعمل لصالح الإمبرياليين... وكانت طريقة موتها غامضة".

لا تستثير آذر نفيسي في هذه المذكرات القارىء كي يقع في شبكة الظن والتخمين، كلا، فهي أرادتْ لمذكراتها أن تكون ردّ فعل على بلادة ذلك الماضي الذي عايشته مع جموح الثورة الخمينية رغم كل الضوضاء الخاملة لهذه الثورة. فالأمر في بعض وجوهه أشبه بتقليب ألبوم صور ومحاولة القبض على ما قد يضيع من الذاكرة عبر إشباع العين بهذه الصور الكثيرة والمؤذية والتي، مع هذا، فإن التحديق بها واجب، وإلا، كما تقول، وقعنا في فخ المشاركة بالجريمة...". في ما بعد، تعلّمتُ أنه ليس مستبعداً أن تشعر الضحية بأنها مذنبة، والسبب الرئيسي إنها تغدو مشتركة في الجريمة من خلال صمتها".


على الرغم من محاولاتها إحالة جسد المرأة إلى خريطة للصمت، فإن الخمينية ظلتْ في هذا المحل أقرب إلى مجاز هش تنقصه المتانة، وما يجري في إيران اليوم يشكّل دليلاً ساطعاً. فسلسلة التمرد على موضعة جسد المرأة، بحسب الصياغة الخمينية للعالم، أثبتت أن جسد المرأة بالتصور الخميني له إنما هو في إيران بمثابة نمط من اللعثمة، من الكلام الفارغ وبرطمة الكلمات فوق ألسنة رجال الدين. فرغم كل أنظمة الصمت والأجهزة التي ترفد كل هذه الأنظمة في جهمورية الخميني الإسلامية، فإن النساء يُبيّن هشاشة هذه الأنظمة... لقد كفّ الإذعان للشرط الخميني عن أن يكون محل مراعاة من قِبل جيل ضخم من الإيرانيين والإيرانيات، فللأمر علاقة بكرامة الإنسان في العالم. تقول نفيسي: "إن عادة التظاهر بالإذعان للنظام خلقتْ نوعاً من الإنحلال الإخلاقي، كسلاً روحياً في داخل كل واحد منا".

بيد أن هذا التظاهر بالإذعان والذي يحاكي الصمت في بعض مضامينه، لا يني يتبدّل... فالصمت مقبرة، الصمت واد سحيق ترفضه بداهة الجسد المتسيّد للمرأة. فما من شيء سوى الصمت بوسعه احتضان هذا الكم من هيئات الرقابة على المرأة... ما من شيء سوى الصمت بوسعه احتضان هذه الجثث المتعفنة كما تقول نساء إيران اليوم.

تقول نفيسي في نصها الذي أرادته أن يكون جسداً محفوراً بكلمات الذاكرة، إن إيران الخميني هي لغز يصعب علينا حلّه، فحتى الدين الذي تلقفناه منذ مراحل طفولتنا تغيّر مع الخميني وصار "حكراً على أتباع آية الله الذين يطلقون على أنفسهم اسم حزب الله"... هذا ليس ديننا تقول، هذه ليست مدننا والبلاد لم تعد بلادنا، وقد باغتت الخمينية ألفة الناس لبعضهم البعض بإجراءات لم تشهدها إيران يوماً على حد قول نفيسي: "أُرغمتْ المطاعم على رفع يافطات فوق نوافذها تحمل عبارة، أقلية دينية، إن لم يكن أصحابها مسلمين".

لقد آن أوان الكلام...
بمقاطع عديدة من الكتاب تبدي نفيسي عدم التسامح مع نفسها بسبب "العجرفة" التي كانت تداخل شخصيتها حيال أتباع الخميني وإمكان وصولهم إلى السلطة، وهي "عجرفة" شاركها إياها كل أصدقائها من المثقفين على تنوع مشاربهم... "على الرغم من أن القوى العلمانية هي التي بدأتْ الإحتجاجات، إلا أن آية الله خميني وأتباعه برزوا الآن في إيران، لأننا كنا متعجرفين جداً...". تقول نفيسي أنها أرادت من الإشارة إلى هذه "العجرفة" أن تكون درساً.

ليس الجسد في مذكرات آذر نفيسي واقعة يمكن تجنبها، فالجسد في هذا المحل هو النص الذي يباغت أنظمة الموت... إنه بداهة الإحتجاج في الشارع والصوت الذي لا يمكن تجنبه في كل جنبات المدينة.

"كان والداي وأصدقاؤهما – تقول نفيسي – يتكلمون عن إيران بوصفها طفلاً محبوباً..."، فإذا بإيران الخميني عبارة عن معجم صمت، أجساد مقيدة وغلالة غبش تمكنت عبر فقه غريب عن إيران من تقزيم الأرواح إلى حدود البلادة أو السجن أو الموت... تقول لها إحدى صديقاتها: "كيف يمكنك أن تثقي بدين ما عندما يكون مسؤولاً عن كل شيء، من السياسة حتى مد أنابيب المياه في المباني؟!".

يخيّل للمرء أن مهسا أميني هي من بثّتْ آذر نفيسي هذه العبارة، فتاريخ النساء هنا لا يتوالى وكل نساء إيران في صراعهن مع الخمينية هن بمثابة امرأة واحدة. الجسد الذي يتلقى الرصاصة هو نص من نمط آخر، والنص الذي يعرّي التاريخ هو جسد من نمط آخر. تقول نفيسي في الصفحات الأولى من "أشياء كنت ساكتة عنها": "هذا الكتاب بمعنى من المعاني هو إجابة على أسئلة رقيبي الذاتي ومحققي الداخلي"، وهي تنهي مذكراتها بالعبارة التالية: "بعد الثورة الإسلامية بدأتُ أدرك هشاشة وجودنا الدنيوي والسهولة التي يمكنهم بها أن ينتزعوا منك كل ما تستطيع أن تسمّيه وطناً، كل ما يمنحك كياناً وهوية وإحساساً بالذات والإنتماء".

بالتالي، وبالعودة إلى السطور الأولى من هذه المادة الكتابية، من النافل أن يصدّق المرء آذر نفيسي وأن يصدق بداهة الجسد المقتول لمهسا أميني، وكل الأخريات من اللواتي لا نعرف عنهن شيئاً، لا أن نصدّق ترسبات الخميني في يومياتنا القاحلة...

يقول الروائي الإيراني، كيهان خانجاني، في روايته "قسم المحكومين"، أنه انتظر عشر سنوات حتى يجد الفرصة المؤاتية لنشرها. أما الرواية ذاتها، فتبدأ بمقطع يتضمن العبارة التالية: "فتح رجل باب قسم المحكومين ثم ألقى بداخله فتاة...".
والقصة لا تنتهي هنا... 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها