الإثنين 2022/10/31

آخر تحديث: 14:16 (بيروت)

في راهنية مدام بوفاري

الإثنين 2022/10/31
في راهنية مدام بوفاري
إتيكيت إجتماعي لا يعلم غير الرب مِن أين أتى
increase حجم الخط decrease
يبدو أنّ في كل عصر، شريحة كبرى تتبع أجواء "مدام بوفاري" للكاتب الفرنسي فلوبير، والتي شكّلت الكتب التجارية الرخيصة وعيها آنذاك، وتحكي أو تُغذي الأوهام لدى من يَقرأها خصوصاً متى كان الأمر متعلقاً بحياة القصور والنبلاء. 

تتبدل الوسائل التي تزرع الوهم في العقول، فقديماً كانت كُتباً من ورق، أمّا اليوم فتتعدد الوسائل والوسائط التي تبث المسلسلات التجارية الطويلة الممتدة لأشهر والمتجددة مع كل موسم، فنشهد لها أجزاء جديدة. ويوضع العديد منها في "يوتيوب" للذين يُودون حضور حلقات متواصلة من المسلسلات لأنهم يضيقون ذرعاً من المدة المفترضة لوقوع أحداث المسلسل، والتي كما أسلفنا قد تمتد أشهر طويلة، وهم في غاية الشوق لمعرفة مصير أبطالهم وبطلاتهم والنهاية.

تزرع هذه المسلسلات في أذهان مُشاهديها من الجنسين، صغاراً وكباراً، أفكاراً عن الحياة والحب، وعن العلاقات الإجتماعية، مشوهة تماماً، مفصولة عن الواقع المعاش. وما يُسهل مهمة هذه المسلسلات في قولب المشاهدين وعيونهم، كونها لا تَفرض عليهم طرح الاسئلة إلا في ما يتعلق بتوقعاتهم أو احتمالات الحقيقة التي تخص المسلسل في هذا الشأن أو ذاك. فهُم يُقبلون عليها بشغف، وتصبح مُشَكِّلَة سلفاً لذائقتهم الفنية والإجتماعية محاولين لَيّ عنق واقعهم كي يتماشى مع ذائقتهم المشوهة.

تتسمر العائلات حول الشاشة يومياً، وفي مختلف الأوقات وعلى مدار الساعة وعلى أقنية تلفزيونية عديدة، مُستلبة الروح تماماً. هذه الشاشة تغذي أوهام المقتنيات والأزياء والبيوت، مطاعم أو حدائق، طرق، علاقات حب، وخيانات، وفاء، وغدر وانتقامات، وأسرار، وأحقاد ترجع الى الزمن القديم.

فأجزاء المسلسل تُعطي في البداية العُقد أو الحبكة، ثم، وبعد التصعيد، تبدأ عملية منح الأجوبة غير المتوقعة والمفاجئة. المخرج أو الكاتب لا يُحاولان أن تكون التفاصيل والأجوبة متماشية مع واقع الحياة أو مُقنِعة. الأجوبة تُفاجِئ، ليس بسبب قوة الواقع فيها، بل لأن المخرج أو الكاتب ارتأيا أنها تُفاجئ وغير مُتوقعة لأنها من بنات خيالهما، ولأنهما واثقان في أنّ الجمهور سيتقبلها وستصبح مدار حديثه في الجلسات واللقاءات. لأن هذا الجمهور مسلوب الإرادة والتفكير منذ البداية، ثم نرى عائلات تطلق أسماء أبطال وبطلات المسلسلات على أولادها حديثي الولادة، والنساء يمسين متذمّرات من الرجال لبخلهم في مغازلتهن.

هذه مسلسلات تعلم مشاهديها الإتيكيت الإجتماعي وفقاً لأساليب لا يعلم غير الرب مِن أين أتَت. إنها مدرسة قائمة بذاتها، غرائبية. وتقليعات كثيرة تندثر مع نهاية المسلسل، ليبزغ فجر موضة جديدة مع مواسم البرامج الجديدة.

من هذه التقليعات ما جرى أمامي في حفلة زفاف لأحد المعارف، حيث كنت مع صديق وصاحبته. وفجأة، وقبل انتهاء الحفلة، تقوم سيدة ثلاثينية، ترتدي منديلاً ملوناً وثياباً مزركشة، لتجول على صف طاولات الحضور. ثم بدأت السيدة ترفع رأسها قليلاً وتُنزِله، مع إبتسامة خفيفة كلما مرت بطاولة. سألتُ صديقي ما بال هذه المرأة؟ قال لي: لا توقظها من سرنمتها، هي الآن في خيالها تسير في بلاط ملَكي، أو في أحد قصور النبلاء، يبدو أنها في طور متابعة مسلسل من نسل كُتُب مدام بوفاري، علّها، عندما تتزوج، تعيش تلك الحياة التي قَرأتْها.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها

الكاتب

مقالات أخرى للكاتب