الإثنين 2022/10/31

آخر تحديث: 12:03 (بيروت)

سوزان الفرا: في "بيت النقب" شرشف طرّزته أمّي.. ومُستوطِن

الإثنين 2022/10/31
سوزان الفرا: في "بيت النقب" شرشف طرّزته أمّي.. ومُستوطِن
من بيوت بير السبع
increase حجم الخط decrease
كثرت خلال العقدين الأخيرين، شهادات الفلسطينيين عن زيارة المكان، سواء كان مدينة أو قرية أو منزلاً، أو حتى أطلال الديار التي لم تعد موجودة. وعادة ما يكون الزائر مقيماً خارج فلسطين، لكن جذوره تجره إلى تلك الأرض التي تم احتلالها العام 1948. وبعض هؤلاء ولدوا هناك وهُجّروا أطفالاً، لكنهم ظلوا يتذكرون تفاصيل التفاصيل، كأنهم درّبوا الذاكرة على البقاء خصبة وقوية ليورثوها للأجيال اللاحقة، وبذلك باتت تفاصيل المكان الفلسطيني وموجوداته عصية على النسيان. وقرأنا قصصاً كثيرة، وشاهدنا صوراً وأشرطة مصورة عن بيوت تفقّدها أهلها بعد أكثر من خمسين عاماً، فوجدوها على ما هي عليه، لكنها باتت مسكونة من عائلات يهودية احتلتها واستوطنت فيها، وتملّكت موجوداتها، كما هو حال الكاتبة سوزان الفرا التي زارت بمعية والدتها بيت الأم في بير السبع بمنطقة النقب، وسجلت شهادتها في كتاب صدر بالفرنسية، وترجمته إلى العربية الناقدة السينمائية ندى الأزهري، وصدر عن دار العين تحت عنوان "بيت النقب".

وفي كثير من الكتابات التي قرأناها عن المكان الفلسطيني، يأخذ الكاتب من هذه النقطة بداية يسافر منها نحو العالم، الذي تشكلت فيه حياته بعيداً من مسقط رأس الآباء والأجداد، وفي هذه الرحلة يعطف الفلسطيني أزمنته وأمكنته التي عاشها وسكنها، بما فيها من مرّ وحلو وألم وسعادة، على مأساة التهجير، وهذا ما يجده قارئ "بيت النقب". فالكاتبة تعود من الجزائر حيث تقيم مع عائلتها، في زيارة إلى غزة التي ولدت فيها، وترافق والدتها وهي بعمر 15 عاماً بمعية شقيقها ابن الـ14 عاماً، وابن خالتها الذي أقلهم بسيارته إلى بير السبع من أجل زيارة بيت الوالدة التي هجرها منه الاحتلال.

وتتم الرحلة إلى البيت، مسقط رأس الأم من دون تخطيط مسبق، وتجرى بناء على رغبة الأم التي أرادت أن تذهب إلى البيت الذي ولدت فيه، وتقرع الباب لترى ما حصل بعد عقود. وبعد بحث مضن، تعرفت على البيت رغم أن المكان تغير وصار مدينة حديثة تشبه المدن الغربية، وحين قرعت الأم الجرس، فتح لها الباب ساكن البيت وهو إسرائيلي من المتدينين، وبعد جدل ومشادة اقتحمت البيت وأصبحت في الصالون. وتصف البنت تصرف الأم بأنه جرى بدفع وقوة المشاعر التي لا يمكن تفسيرها على نحو بارد، والمفاجأة أنها وجدت في الصالون كرسي الخيزران الهزاز الذي كان يتمدد عليه والدها، وطبقاً جميلاً من ممتلكات أهلها موضوعاً فوق شرشف هي التي طرزته عندما كانت صبية صغيرة. وعندما ارتفع لديها منسوب المشاعر، حاولت أن تستعيد الصحن، وحصلت مشادة بينها وبين شقيقة المستوطن اليهودي. وصرخت في وجهها "هذا بيتي، هذا بيت أبي، هذه أثاثي، هذا طبقي". وبين الشد والجذب، انكسر الطبق، فنُفّس التوتر، وكان ردّ فعل الأم وهي تنسحب خارجة من البيت: "يا حرام كسرنا الطبق الجميل".


تدوم الزيارة دقائق وتحصل خلالها المشادة، ومن ثم تعود الأم والوفد المرافق لها إلى غزة، وتمر المسألة من دون أن يتحدث عنها أحد، حتى الأم كانت تتصرف كأن شيئاً لم يقع، لكن بالنسبة لابنتها وابنها، تتولد حالة يلخصها الإحساس بأن الأم رمت في قلبيهما ذلك البيت، وتركتهما يتجرعان السم. ونقطة المركز في الرواية هي الفلسطيني الذي لا ينسى البيت ويريد لأولاده أن يأخذوا عنه هذه الأمانة، والوجع الأول الذي يبدأ ويتفرع منه كل شيء زمانياً ومكانياً. ويبدو من سرد هذه اللقطة السريعة داخل البيت، أنها جرت مثل حلم بالنسبة للأم وأولادها وابن شقيقتها، كل منهم عاشه وحلمه بالصورة التي تشكل فيها داخل مخيلته، وهذا ما يفسر أنهم لم يعودوا إلى الحديث عن الزيارة، التي نمت بذرتها في وجدان كل منهم على نحو مختلف.

بقية فصول الكتاب تتشكل من حادثة تهجير الأسرة من بيتها في بير السبع إلى غزة، ولأن عائلة الوالدة من منبت طبقي مرتاح مادياً، فإن المكان الجديد بالنسبة لها مختلف عن بقية السواد الأعظم من الشعب الفلسطيني، الذي ترك كل شيء خلفه ورحل إلى الضفة الغربية وبلدان الشتات. وهذا حظ أسرة الأب التي لجأت إلى غزة، ورغم الفارق الطبقي تزوج من عائلة كانت تنظر له باستعلاء، وحتى زوجته كانت تعامله على هذا الأساس رغم أنه حصل على عمل مرموق في مدينة جدّة كمدير للحسابات الجارية في مصرف سعودي مهم، وصار يتمتع بامتيازات ونمط حياة قرّبه من الأسرة الحاكمة. لكن هذه الإقامة لم تدم طويلا، وكان لابد من رحلة أخرى باتجاه الجزائر، لأن مناخ السعودية لم يناسب الوالد. ويتم بعد سنوات قليلة من استقرار الأسرة في الجزائر، احتلال ما تبقى من فلسطين في العام 1967، فيصبح الجميع ممحيين من السجلات، عليهم تدبّر هوية أخرى، لكنهم فشلوا في ذلك وظلوا فلسطينيين غير قابلين للذوبان في المحيط العربي، مثل أعواد القرفة وجذور الزنجبيل.

وفي كل الأحوال ليست إقامة الجزائر سعيدة، رغم أنها مديدة، تموت الأم هناك، ولم تستطع العودة إلى بيتها أهلها في النقب. ماتت وحيدة ومات معها ميلها المرضي إلى ذلك. وتتحلل جثتها في مشرحة حي باب الواد، وهذا كل ما بقي من ذكراها. وترحل الكاتبة إلى مدينة نانت في فرنسا، مع أولاد وزوج اسمه الكنز (الكاتب والباحث والجامعي علي الكنز)، وهو اسم على مسمى كما تقول. أرادت أن تلتحق بابن البلد فتزوجته وأنجبت منه وأرادت أن تنتمي إلى وطنه الجزائر، وبعد سنوات لم تستعد وطنها الأصلي، بل انتزعوا منها الوطن البديل "ذهبت جزائري مني، والأسوأ من هذا أنهم انتزعوها كذلك من ابن البلد نفسه"، الذي أصبح لاجئاً في فرنسا بعد العشرية السوداء في الجزائر "بات النقب بعيداً وغدا خلفي الآن. الجزائر البيضاء ضبابية وغزة غبارية ونانت لماعة".

النقلة الثالثة، اللجوء من الجزائر إلى تونس، وفي بيت السفيرة الفلسطينية في مالطا، نهى (على الأرجح نهى تادروس)، وهو لقاء مع الوجه الآخر من التراجيديا الفلسطينية، الذي يتمثل في التغريبة الفلسطينية في مرحلة الثورة. وتعترف الكاتبة أن معركتها خاسرة بعدما صار مشهد بير السبع ينأى، واختفى في أفق من غبار. إنه سجل اختفاء أو اختفاء مسجل. وفي ذلك كله، تبقى غزة، ودائماً غزة تعود مثل كيد، تموت وتحيا في الآن ذاته، معادية ومرحبة، جريحة ملطخة بالدماء، ممزقة الجسد، لكنها تصرخ كبطلة، وتنبض في داخل الكاتبة ابنتها التي لا تتركها، فهي البيت الأول. لكن جرح بير السبع يبقى مختبئاً في قرارة النفس، وفي الجولة الكبيرة التي قامت بها الكاتبة مع ابنها، أثناء زيارة القدس مروراً بمطار تل أبيب، تحصل المفارقة الكبرى، حين تلتقي مع الوجه القاسي للصورة في صحراء النقب، وهو عبارة عن عالمة انثربولوجية يهودية أمها ولدت في غزة، وتقيم في بير السبع مع زوجها اليهودي الأميركي، ولا تستطيع العودة إلى غزة وهذا هو الفارق.

وفي الختام تتاح للكاتبة فرصة زيارة بيت الأم في بير السبع، وتقود ابنها إلى هناك كي تورثه ألم الجدة، فتعثر على البيت الذي تحول إلى كنيس للعبادة. وهنا يسقط عن كاهلها جزء من الحمل، من خلال الشعور بأنها مررت لابنها شيئاً مما في داخلها، أورثته أمها وحكايتها.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها