الأحد 2022/10/30

آخر تحديث: 10:49 (بيروت)

"هيكالو" حي الشراونة و"هيكالو" شارع الحمرا

الأحد 2022/10/30
"هيكالو" حي الشراونة و"هيكالو" شارع الحمرا
ممثل يتقمص أدوار شخصيات عدة
increase حجم الخط decrease
لا يسع الذاهب لحضور مسرحية "هيكالو"، تمثيل عباس جعفر، كتابة واخراج يحيى جابر وتُعرض على خشبة مسرح المدينة، إلا أن يُقارب الحكاية داخل المسرح من حيث الأداء والنص والجمهور، مقارنة بالواقع خارج المسرح، (أي الشارع)، شارع الحمرا تحديداً، بما يمثله وما يرمز إليه في تاريخ الجمهورية اللبنانية، وفي وجدان الناس والشعراء والكتّاب والسياح العرب والأجانب. 

والحال أن يحيى جابر، عاشق ليل شارع الحمرا ومقاهيه وحاناته وتعدّديته وأرصفته، والذي يقارب في مسرحه أو نصوصه، المجتمعات أو الشعوب اللبنانية، البيروتية("بيروت، الطريق الجديدة")، والجنوبية، الشيعية ("مجدرة حمرا"، "شو ها") والمناطقية، من خلال الممثل/ة الواحد/ة الحكواتي/ة (زياد عيتاني، حسين قاووق، أنجو ريحان...) هذه المرة، في "هيكالو" اختار الممثل والوجه التلفزيوني الفكاهي البعلبكي وابن حي الشراونة، عباس جعفر، ليتغلغل في واقع بعلبك الهرمل، وتحديداً حي الشراونة الشهير في نشرات الأخبار التلفزيونية بالمداهمات والخطف وقصص المطلوبين ومطاردتهم والبحث عنهم... 


زار يحيى جابر حي الشراونة وبلدة الدار الواسعة (مسقط رأس سكان الحي) مرات عدّة، وجالس أبناء عشيرة آل جعفر، وكتب نصه عن قرب وبعمق، ربّما يتجاوز نصوصه السابقة، إلى جانب أنه اختار الممثل الذي يلبس النص لبساً، فلا تنفصل شخصية الممثل عن الواقع الذي أراد تمثيله، ممثل يتقمص أدوار شخصيات عدة(الجدّ، والأبّ، والجدّة، والشيخ، والعمّة، والميتم والواقع) في المسرحية، ويروي الحكاية أو الحكايات، بشيء من الكوميديا السوداء، بشيء من الحزن، حكاية حي الشراونة من البدايات في الخمسينيات أواخر عهد الرئيس كميل شمعون وبدء مهرجانات بعلبك الدولية، التي تبدو كأنها منفصلة عن المدينة، إلى الآن. 

الأساس في المسرحية هي طباع سكان حي الشراونة وطقوسهم وعلاقتهم بمحيطهم وعلاقتهم بالدولة، وتركز الكلمات على فكرة الميت الذي يسيطر على وجدان الأحياء، وفكرة أن الثأر يحصل لإراحة الميت في قبره، إلى ما هناك من طقوس وتقاليد وعادات قروسطية لا تزال راسخة في وجدان بعض الجماعات... ما يقوم به يحيى جابر بعد صولات وجولات أن يحبك النص حبكاً، ليختم الحكاية بما يشبه الدعوة إلى التسامح كبديل عن لغة الثأر في المجتمعات.

لا ضرورة لسرد تفاصيل المسرحية، فهي تستحق المشاهدة، لكن علينا أن نخرج من الواقع الممسرح والقاسي داخل مسرح المدينة إلى مسرح الواقع في شارع الحمرا وهو الأشدّ قسوة ربما، فأنا الذي وصلت إلى شارع الحمرا قرابة السابعة، بعد زمن من الانقطاع عن زيارته في الليل، كانتْ الفكرة أن أتجوّل وأتسكّع على الرصيف لمعرفة مآلات الحياة في خضم الأزمات والتحولات، وما الذي تغيّر، وما الذي تبدّل... فكرتُ إذا ما كنت سألتقي صديقاً أو زميلاً في مقهى من المقاهي، وهذا لم يحصل.

 في المسافة القصيرة التي قطعتها مشياً على الرصيف، تبينت لي إفزارات الأزمة أو الأزمات، فعدا على تراكم الأوساخ على الأرصفة، وقد كُتب أكثر من تقرير اعلامي عن الموضوع، هناك طفرة دراجات نارية الأرجح بسبب غلاء المحروقات، وعربات باعة لم تكن موجودة من قبل، وبسطات من النوع التي تتواجد في الاسواق الشعبية، وطفرة متسولين من النساء والأطفال يفترشون الأرض، وطفرة محال صيرفة أكثر من اللازم. ثمة محال كثيرة استسلمت، إحدى اشهر بسطات الدخان في الشارع، أقفلها صاحبها، قال إنه كان يبيع السجائر في المساء، وفي الصباح يكتشف حجم خسائره بسبب صعود وهبوط الدولار واللاستقرار... وفوق كل شي، هناك الطامة الكبرى وتتجلى في العتمة والظلام في شارع الأنوار... في مسرحية "هيكالو"، الدولة تضع عمود كهرباء في حي الشراونة، فيأتي جد الراوي او الحكواتي عباس جعفر يقيم تحته مكتشفا الضوء أو الكهرباء، ويبني غرفته ويتمدّد، ويجرّ وراءه أهالي بلدة الدار الواسعة باحثين، والغرفة تصبح حياً من المهمشين... بمعنى آخر هناك خلل في بنية النظام اللبناني وطرقه الانتقائية في الانماء، جعلت أهالي الريف ينزحون الى ضواحي المدينة(سواء حي الشراونة في بعلبك، أو الاوزاعي في بيروت). ومآل النظام اللبناني، أنه بعد ستة عقود من عمود الإنارة في بعلبك(بحسب استعارة المسرحية)، يزرع عواميد الظلام ليس في بعلبك فحسب، بل في بيروت وفي قلب شارع الحمرا... وبالتالي صار لبنان كله حي الشراونة (والحي هنا استعارة لتمدّد التهميش وتعميمه).

أيضاً هناك جملة قاسية ترد في "هيكالو" يحيى جابر، عن تقاليد العشيرة وتنطبق على المنظومة اللبنانية الحاكمة نفسها، فالعشيرة التي تتبع لغة الثأر، وتجعل من الميت يحكم الأحياء، أو الميت يحكم من قبره، في جانب كبير وأساسي من السياسة اللبنانية (القوات، التقدمي، أمل، المردة، حزب الله، الوطني الحر)، غالبا ما يستعمل أقطاب السياسة الاسلاف والأموات لحكم الأحياء والقبض على مصائرهم ومستقبلهم. يستحضر السياسيون مأثر الحرب الأهلية وتداعياتها وعصبياتها ومجازرها وغزواتها وضحاياها و"أبطالها" للاستحواذ على توجهات الناس وأبقائهم داخل عصبيات وكانتونات... الماضي الممجّد والدموي والقاتل لا يمضي في السياسة اللبنانية، الماضي يستعمل حيث تقتضي الحاجة الانتهازية.

منظومة حاكمة تستعين بالاسلاف لتحكم، لتجعل من كل شيء جثة هامدة تحت العتمة.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها