السبت 2022/10/29

آخر تحديث: 12:56 (بيروت)

الساعات الأخيرة في حياة عز الدين ذو الفقار

السبت 2022/10/29
increase حجم الخط decrease
نعم كان ابن موت... كل شيء في حياته ينحاز لهذا الاعتقاد.
عاش المخرج عز الدين ذو الفقار أربعة وأربعين عاماً فقط، أنهاها القدر في 1 تموز 1963، ومع ذلك كتب قبل رحيله بقليل يقول: "أنا عشت.. عشت.. عشت، عشت مئتي سنة، وأنا مبسوط وسعيد جداً، أنا عشت حياة لا يمكن لأحد أن يحسها أو يصل إليها لدرجة أنني الآن وأنا مريض وجالس في سريري أستعيد المغامرات التي عشتها والتجارب التي مررت بها، فأحس بابتسامة تعلو شفتي وتجعلني أضحك من الناس".

كان عز يؤمن بحكمة تصح أن تكون مفتاحاً لفهم ما فعله في السنوات القليلة التي عاشها: "إن الحياة تأخذ منك، فخذ منها أنت قبل أن تأخذ هي منك"، وربما لذلك عاش ابن الموت سيرة وعطاء أطول من عمره الحقيقي، وعاشت أفلامه الثلاثة والثلاثين التي قدمها في خمسة عشر عاماً فقط، كأنها صنيعة اليوم أو بالكاد نتاج أمس قريب، كان يعب الحياة عباً، وينهل منها كما لو كانت تلك هى ساعته الأخيرة في الدنيا غير عابئ بما يمر به من أزمات صحية. أفرط عز في كل شيء: في عشقه للرياضة وللثقافة والموسيقى، وفي مغامراته، وفي عمله، وفي إخلاصه لأهله وأصدقائه، أفرط في التدخين والسهر، وقبل ذلك كله في عواطفه حباً دون كره، ميلاً بغير صد، منحاً بلا تمنع أو جباية، كان عز – كما وصفه صديقه المخرج الراحل صلاح أبو سيف – يحمل قلباً من قلوب الملائكة، وأولى ميزاته أنه باع حياته للفن... كان قاسياً على نفسه رقيقاً في علاقته بكل شيء حوله، ولذلك عاش ابن الموت في نفوس كل من اقترب منه أو حتى لامس سيرته، عاش في قلوب كل من أحبوا الحب وعرفوه واقعاً ملموساً في الحياة، أو خيالاً صادقاً في كل لقطة ومشهد نقلها إلينا عبر أفلامه، فأزكت أنوفنا ورود الربيع مع "آمال" في كل تجدد "موعد مع الحياة"(1953)، وتذكرنا قصة "محمود ومنى" بين الأطلال - إنتاج 1959 - في كل مرة يوشك فيها القرص الأحمر الدامي على الاختفاء.

لقد خرجت بخلاصة، بعدما اقتربتُ ولامستُ عز الدين ذو الفقار سيرة وأفلاماً وأسلوب حياة بحقيقة واحدة، وهي أن الرجل الذي غادرنا مسرعاً، كان يريد في كل ما يفعل أن يعي البشر السر العظيم، فإن أرادوا حياة فليفسحوا في قلوبهم مجرى لنهر من الحب تماماً مثلما ألح على تذكيرنا في فيلمه "نهر الحب"(1960).


(عز الدين ذو الفقار)

كان عز الدين ذو الفقار ابن ثورتين، واحدة ولد في أتون تأججها، وتربى في رحاب آثارها وتداعياتها، والأخرى آمن بها واقترب من قادتها وكان من الجائز أن يصبح أحد صانعيها. وعاش عز حياتين أولاهما قائمة على الالتزام والطاعة المطلقة، وثانيتهما أقرب إلى البوهيمية والفوضى وروح التمرد، وربما هذه هي التي قادته إلى مصيره المحتوم وعمره القصير. اكتفى الرجل بأربعة وأربعين عاماً ثم رحل، وفي الحياتين وأيام عمرهما القليلة كان عز نابهاً ومتفوقاً منضبطاً كان أو متمرداً.

يقولون إن عز مخرج رومانسي، اقترن اسمه بهذا التيار أكثر من أي مخرج مصري آخر بمن فيهم هنري بركات، الذي بدأ مشواره قبله بسنوات ثم عاصره وامتد عطاؤه بعد رحيله بسنوات، لكن عز بعلاماته الكبرى وروحه الشاعرية كرس لتيار كان هو بالفعل فارسه، وصبغ جيلاً كان هو ألفته، وترك نموذجاً بقى هو الأقرب لاستحضاره عند أي محاولة جديدة لتقديم فيلم رومانسي مكتمل الخصال وكأنه "ستيريو تايب" أو قالب سابق التجهيز صالح لكل زمان ومكان. ورغم تلك المزية أو هذا الفضل الذي منحنا إياه عز، فإنني أرى أنه ليس من الإنصاف اختزال عطاء ذو الفقار في أنه مخرج للأفلام الرومانسية. صحيح أنه صاحب العلامات الكبرى: إني راحلة 1955 وبين الأطلال 1959 ونهر الحب 1960، ويمكن أن نضيف إليها: خلود 1948، سلوا قلبي 1952، وردّ قلبي 1957، لكنها في النهاية ستة أفلام فقط من أصل ثلاثة وثلاثين بينها "رد قلبي" الذي اختلطت فيه المشاعر الشخصية في قصة "علي وإنجي" بالهم الوطني الثوري لشعب طامح إلى التحرر، طبعاً من دون إغفال أن السلوك الثوري في حد ذاته هو فعل رومانسي في أعلى صوره. فإذا كان ذو الفقار مجرد مخرج أفلام رومانسية فماذا نقول مثلاً عن كوميدياته الموسيقية في: الكل يغنى 1947، صاحبة الملاليم 1949، ابن الحارة 1953، وشارع الحب 1958، أو عن أفلام الحركة ذات الطابع البوليسى في قطار الليل 1953، رقصة الوداع 1954، والرجل الثاني 1959، أو عن تراجيدياته في أسير الظلام 1947، أنا الماضي 1951، وفاء وموعد مع الحياة 1953، موعد مع السعادة 1954، أغلى من عينيه وشاطئ الذكريات 1955، طريق الأمل 1957، امرأة في الطريق 1958، والشموع السوداء 1962؟ وماذا نقول أيضا عن أفلامه الاجتماعية في: أقوى من الحب 1954، هارب من الحب 1957، والبنات والصيف 1960، وعن كوميدياته المباشرة في كما في أجازة في جهنم 1949 وموعد في البرج 1962؟ صحيح أن بعضاً من هذه الأفلام لا يرتقي إلى علاماته الرومانسية البارزة، لكن الصحيح أيضاً أن بعضها الآخر كان جديراً وحده بأن يكون واجهة لمخرج كبير له اسمه ومكانته، فما بالنا إذا عرفنا أنه كان من المفترض أن يتولى ذو الفقار أيضاً إخراج اثنين من أهم أفلام السينما المصرية هما "جميلة" عن قصة كفاح الشعب الجزائرى ضد المستعمر الفرنسي، و"الناصر صلاح الدين" أضخم إنتاج سينمائي عرفته مصر في تلك الفترة، لكن حالت ظروف مرضه في المرتين دون البدء في تصوير الفيلمين ليضيع عليه حلم عمره في تقديم فيلم صلاح الدين تحديداً بعدما ظل يُعد له قرابة خمس سنوات.

(إني راحلة)

ولم تكن الأزمات الصحية التي تعرض لها عز، ابنة السنوات الأخيرة من حياته، فربما تكون قد بدأت مع رحيل والده بالتزامن تقريباً مع وفاة صديق عمره المخرج كمال سليم صاحب فيلم "العزيمة"(1939)، فقد أفرط عز بعد رحيلهما في كل شيء: التدخين والشراب والسهر والمغامرات والعمل دون كلل حتى داهمته الأزمات. فمن الروماتيزم إلى الذبحة الصدرية إلى قرحة المعدة، وكانت المشكلة الطبية في علاج عز تضارب أثر الأدوية على حالته الصحية حيث كانت أدوية الروماتيزم تزيد من قرحة المعدة، وأدوية المعدة تؤثر في قدرته على التنفس، ومع ذلك لم يكن عز يتوقف عن العمل، وكان يقول لمنتقديه: "ما دام رأسي على جسدي، وما دمت في كامل وعيي فلن أتوقف عن العمل، وعن الحلم بأفلام جديدة، ووصل به الأمر أن قام بإخراج فيلمه الأخير "موعد في البرج" من بطولة سعاد حسني وشقيقه صلاح ذو الفقار وهو على كرسي متحرك، لكن بعد الانتهاء من الفيلم دخل عز المستشفى أكثر من مرة، وبات عليه الاعتراف بأنه أصبح غير قادر على العمل، فتقدم للسيدة آسيا التي انتظرته طويلاً باعتذاره عن عدم إخراج فيلم "الناصر صلاح الدين"، واختار له بنفسه المخرج يوسف شاهين لإنجاز المهمة تماماً مثلما فعل مع الفنانة ماجدة بطلة ومنتجة فيلم "جميلة"(1958).

ويحكى الصحافي جليل البنداري الساعات الأخيرة في حياة عز لصحيفة "أخبار اليوم" في 6 تموز 1963، بعد خمسة أيام فقط من رحيله، فكتب:

"ولقد أمضى عز الدين ليلة الرحلة الطويلة مستيقظاً ولم يسمح للنوم بأن يتردد على عينيه لحظة واحدة، وعندما قال له سائقه رمضان صالح نام لك شوية عشان تريح قلبك، قال له عز الدين: "مش ممكن، أنا حاسس إني لو غمضت عينيه مش ح أفتحها تاني، ولهذا أمضى طول الليل ساهراً، ولم يغمضها إلا بعدما زاره الموت ليدعوه إلى الرحلة الطويلة.
في تلك الليلة قال لرمضان صالح، خليك جنبي، أنا حاسس إن دي آخر ليلة ح نسهرها سوا، أنا حاسس إني ح أموت، طول عمري تاعبك معايا، ربنا يكافيك على تعبك معايا، ممكن تكمل جميلك وتطلب كوثر عشان تجيبلى دينا، فرد رمضان: أخاف أطلبهم في وقت متأخر زى ده يتخضوا عليك، طيب ما تنساش الصبح تجيبلى نادية ودينا.
وفي الثالثة صباحا طلب أن يرى والدته وأشقاءه، وزاره محمود وممدوح وتركاه في الرابعة صباحاً، ومضت ساعتان وهو يتكلم عن الموت ورحلة الموت، وكان يقول أنه مطمئن على مستقبل ابنته نادية فقد كبرت، وفاتن ترعاها، أما ابنته دينا فمسكينة هى وأمها.
يا رمضان قل لكوثر إن دينا أمانة في عنقها.
يا رمضان لا تترك دينا من بعدي. زرها كل يوم واطمئن عليها بقلبى لا بقلبك أنت!
وفي السادسة صباحاً قال لرمضان افتح الراديو، أريد أن أستمع إلى القرآن الكريم، وفتح رمضان الراديو، وهدأت أعصاب عز وهو يستمع إلى القرآن الكريم، وفي السابعة صباحاً بدأت نشرة الأخبار، لكن رمضان لم يستمع إلى الأخبار، فقد كان مشغولاً بخبر هام آخر.. كان عز الدين ذو الفقار يسلم الروح بين يديه".
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها