الأربعاء 2022/10/26

آخر تحديث: 13:20 (بيروت)

"الأرجنتين، 1985".. سينما سياسية تخصّنا

الأربعاء 2022/10/26
increase حجم الخط decrease
الأرجنتين 1985. بعد عامين على نهاية نظام خورخي رافايل فيديلا، عندما قررت الديموقراطية المولودة حديثاً، إجراء محاكمة ضد الجنرالات الانقلابيين، ما جرّ عليها العداء، ليس من أولئك الذين يُحاكمون فحسب، وإنما أيضاً من جزء من الرأي العام؛ مع شرطة ما زالت متواطئة، ومؤسسات غير متعاونة، وحكومة ضعيفة ومترّددة. من المفترض أن يقوم المدّعي العام خوليو ستراسيرا بجمع الأدلّة ضد القادة المسؤولين عن أكثر الديكتاتوريات دموية في تاريخ الأرجنتين الحديث.

لأميركا اللاتينية تاريخ طويل وحزين مع الانقلابات والديكتاتوريات العسكرية. بعض البلدان نجا واجترح مساراً ديموقراطياً لاحقاً، والبعض الآخر ما زال داخل النفق. بالنسبة للأرجنتين، مرت 37 عاماً على محاكمة المجالس العسكرية التي حكمت خلال آخر ديكتاتورية في البلاد، بين العامين 1976 و1983. ورغم أن هذا قد يبدو وقتاً طويلاً، إلا أنه ليس مدة طويلة حقاً من الناحية التاريخية: هذه أحداث معاصرة، إلى حد ما، لنصف سكّان البلد تقريباً.

وهذا يعني أنه لا مسافة لوقوف المعنيين أمام استعادة تلك الأحداث من دون التورّط في مسائل وإشكاليات تخصّ العاطفة والذاكرة وحتى الجسد، تؤثّر في الارتباط بتلك الحقبة المظلمة. من المستحيل التعامل مع فيديلا أو غاليتيري (أبرز القادة الانقلابيين)، أو حتى خوليو ستراسيرا، المدّعي العام الذي حاكم الديكتاتوريين، كما يتعامل المرء مع أعضاء المجلس العسكري الأول العام 1810. من المستحيل اختزالهم في شخصيات كارتونية أو أحادية الجانب: أفعالهم، الوحشية في جانب، النبيلة في الجانب الآخر، هي جزء من حياة الملايين من الأرجنتينيين الذين عاشوا ذلك الزمن، الذين يعرفون ما حدث، والذين عانوا فظاعات العسكر وحُكمهم. وبالمثل، أولئك الذين ما زالوا يقلّلون أو ينفون وجود التجاوزات أصلاً.

لهذا السبب يستحيل على المرء (خصوصاً إن كان أرجنتينياً) أخذ مسافته من "الأرجنتين، 1985"(*)، الفيلم السابع للمخرج سانتياغو متري، والذي يعيد خلق الظروف المحيطة بتلك المحاكمة. لأنه، ورغم كونه خيالاً قائماً على أحداث حقيقية، إلا أن رؤيته مطبوعة قطعاً بوسائل تخدم أغراضه الدرامية على أفضل وجه، وسيكون من الصعب على الكثيرين تقديم هذا التنازل. من الصعب مشاهدته بطريقة معقّمة ومنزّهة، من دون التظاهر بأن روايته تتوافق مع قصة الذاكرة نفسها، لأنه يصوّر أحداثًا ما زالت تحتل الصميم المركزي لما يعنيه أن تكون أرجنتينياً في العام 2022. كيف تشاهد فيلماً يروي ما تعرفه، لأنك كنت هناك وشهدت ما جرى؟

صحيح أن كل فعل تعبير هو حقيقة سياسية، و"الأرجنتين، 1985"، في الواقع، فيلم سياسي يجب تناوله ومناقشته سياسياً. لهذا السبب، فإن أولئك الذين يسعون إلى استخدام عمل متري لصبّ المياه في طواحينهم قد ظهروا بالفعل، من جانب أو آخر: البيرونيون، اللجنة الوطنية المعنية بالمختفين أثناء الديكتاتورية، ستراسيرا، الشيطانان المؤمنان (فيديلا وغاليتيري)، الحقوقيون. من هذا المنطلق، يعتبر الفيلم نبيلاً، حيث يقتصر على إثارة بعض الشكوك، والتركيز على حساب أصعب الحقائق المرتبطة بالعملية نفسها والتحقيق الذي أجراه الفريق بقيادة ستراسيرا نفسه ونائبه لويس مورينو أوكامبو (يلعب الدورين ببراعة كل من ريكاردو دارين وبيتر لانزاني، على التوالي).


حين عُرض الفيلم للمرة الأولى في مهرجان فينيسيا السينمائي قبل شهر، قال سانتياغو ميتري في المؤتمر الصحافي إن "بلداً بلا عدالة هو بلد بلا حرية. هذه المحاكمة هي حقيقة مهمة للغاية بالنسبة للأرجنتين، وهي في الواقع تدشّن ديموقراطيتها. وفي رأينا كان على السينما أن تروي هذه القصة، ونحن فخورون بأن نكون أول من فعل ذلك، ولكي تكون قادراً على تقديمه للعالم، ربما كان علينا الانتظار بعض الوقت للقيام بذلك".

من السيناريو، الذي تعاون مترى في كتابته مع ماريانو ليناس، يتخذ المخرج قراراً بالتركيز على الشقّ القانوني، وتحويل السياسة إلى هالة تحيط به مثل فقاعة خانقة على نحو متزايد. مثل الواقع نفسه. لكن "الأرجنتين، 1985" لا يتجنّب طرح مواقف مفتوحة للنقاش. في الواقع، منذ فيلمه الطويل الأول "الطالب" (2011) حتى آخرها "القمّة" (2017)، اهتم متري دائماً برفد أفلامه بمساحات للحديث والمناقشة خارج الشاشة. لكن مع الإبقاء على مسافة من موقع الاتهام أو الحكم، مع عدم رغبته في أن يصبح فيلمه حكماً على أي شخص آخر. هذا هو السبب في أنه من الممكن أن نقول إن ما يقال في الفيلم (وكيف يُقال) يمكن أن يكون درساً مناسباً للنصف الآخر من البلاد، أي الشباب الذين لم يعاصروا تلك الأحداث الفظيعة، وتوقّفت معرفتهم بها على محفوظات التاريخ وكتب الدراسة.

ساعدت في ذلك حقيقة أن متري، كما هو الحال في جميع أفلامه تقريباً، يستخدم قوالب وموارد السينما الكلاسيكية لرواية القصة. هذا يجعل من السهل على أي مُشاهد التواصل مع القصة المسرودة. وهنا يكمن سبب عدم التخلي عن استخدام الفكاهة والكوميديا، حتى عندما يتعامل فيلمه مع أكثر الحقائق فظاعة في تاريخ الأرجنتين. وهذا هو السبب أيضاً في أنه لا يستخفّ بقوة الأنواع الفيلمية مثل أفلام الإثارة أو أفلام الحركة، والتي تعطي القصة إطاراً سردياً يسهل التعاطي معه والتورّط فيه. من الممكن في هذه الإيماءة الجمالية، في هذه الإرادة لإنجاز فيلم جماهيري، العثور على أعظم عمل سياسي لمتري بصفته سينمائياً.

لكن هل يتوقّف الأمر عند حدود الأرجنتين؟ لا. في الحقيقة، هذا الفيلم مثال نموذجي للتدليل على قوة السينما وتأثيرها وامتدادات أصدائها. أبعد من تقديره المستحَق على المستوى الفنّي (اختارته الأرجنتين لتمثيلها في منافسات الأوسكار)، يمثل وجود مثل هذه الأفلام أهمية بحدّ ذاته، بما تعنيه قدرتها على الوجود من دليل واضح على تجاوز إرث سياسي ثقيل، أو العمل كحكاية تاريخية تحذيرية بمبدأ "نأبى حدوث هذا مجدداً"، أو حتى في التعامل معها كنافذة صغيرة بعيدة يدخل منها بعض هواء طازج وأمل ضئيل في بلدٍ آخر في قارة أخرى لا تزال تعيش داخل النفق ولا تريد (أو لا تستطيع) الخروج من ليلها.

يستعيد الفيلم لحظة تاريخية لم تتكرر: محاكمة القادة العسكريين السفاحين (ومن بينهم رئيسا دولة سابقان) أمام محكمة مدنية، عن جرائمهم بحق المعارضين والمختفين قسرياً. هذا مهم لأي مُشاهد في أي بلد ما زالت محاولات التحوّل الديموقراطي فيه متعثرة، في مصر كما في العراق وليبيا وغالبية دول إقليمنا المنكوب بحكّامه وانتفاضاته المُجهضة وسياسة لوم الضحايا. بمثل هذا الفيلم يستعيد المرء إيمانه بالسينما كوسيط قادر على اختزان وعكس معاني الذاكرة والعدالة والحقيقة والتواصل.

(*) يُعرض حالياً في "أمازون برايم".
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها