الإثنين 2022/10/24

آخر تحديث: 14:31 (بيروت)

أوهام ثلاثية "البلاغة والخطاب والحِجاج"

الإثنين 2022/10/24
أوهام ثلاثية "البلاغة والخطاب والحِجاج"
توماس كوبيرا.
increase حجم الخط decrease
كثُر الحديث في الغرب خلال العقدين الأخيرين، عن عودة مظفرة لنظريات تدور حول ثلاثية "البلاغة والخطاب والحجاج"، بعد إهمال هذا الجانب من فن الممارسة السياسية لسنوات طويلة. هذه العودة شهدت عليها غزارة في إصدارات الكتب المتخصصة في هذا المجال، كما شهدت تكثيفاً في انعقاد المؤتمرات والندوات التي احتضنتها قاعات الجامعات لمتخصصين وأساتذة في هذا المضمار، كما أفادتنا به بعض مقدمات الكتب المترجمة منها الى العربية...

وهذه الكُتب يقارن فحواها الإفتراقات النظرية التي سَطرَتْها، بالمقارنة مع أصولها الإغريقية، والتعديلات التي أُجريت عليها بسبب تغيُرات طرأت على الظروف المحيطة بها عند نشأتها، والمختلفة عن ظروف عصرنا الراهن. لكن، رغم التبدلات الحاصلة منذ ذلك الوقت، ما زالت تتشارك مع لحظة الأصول، في وظيفة وغاية هذا الشأن الثلاثي، ألا وهو فن الإقناع، وإن أجرت تعديلات طفيفة في تعريف هذا الفن، بجعله فن الاقتناع والتيقين على حد ما ذهب إليه بعض هذه الترجمات، مثل كتاب "الامبراطورية الخطابية" لشاييم بيرلمان.

بعض هذه الكتب يبني نظرياته على ايقاع الإنفصال عن الواقع المُعاش، مُكتفياً ومُطمئناً على حاله وأوضاعه التي تؤمنها النقاشات في قاعات الجامعات والمراكز البحثية، من دون أن تحاول تجريب ما توصلت إليه على أرضية الواقع الصلب. فأي خطابة وبلاغة وحجاج يمكن استخدامها ونحن نرى ونشاهد، مثلاً، مستوى العملية السياسية والإنتخابية في لبنان، ومن حولنا وفي العالم، حتى تلك التي تتمتع بتاريخ طويل نسبياً من فن ممارسة الشأن العام في الدول المُعتَبرة ديموقراطية. فما عاد يوجد أي خطاب عقلاني أو برنامج انتخابي للحصول على التأييد للمؤازرة. وما نشهده اليوم في لبنان والعالم بأجمعه، شعارات شعبوية وشائعات عن الحياة الخاصة والعامة، وفضائح واتهامات بالفساد والسرقة، يطلقها كل طرف ضد خصمه. ذلك أن ما يضمن نسبة التأييد العالية من الجمهور، لهذا الزعيم أو ذاك، يقتضي من الجميع الانحدار الى أوهى الوشائج لتأمين نسبة عالية من الحشود، كما يقول الياس كانيتي في كتابه "الجماهير والسلطة"...

ما ينطبق على العالم الخارجي ينطبق على بلادنا وزعمائها وجماهيرها، إنما بصورة كاريكاتورية أكثر. فالإجماع يتحقق ليس فقط عبر الوشائج الواهية، والتي تدل على الحط من قيمة الإنسان عبر الخطب المتلفزة والبرامج السياسية المُكثفة الهادفة للسيطرة على تفكير الإنسان وتقزيم شأنه وخداعه بأنه حر (بتصرف)، كما رأى برنارد نويل في كتابه "الموجز في الإهانة". بل أيضاً عبر توثيق الإجماع بوشائج أوهى مما ذُكر أعلاه، ألا وهي التحكم بوسائل عيشه عبر سلسلة من التقديمات الاجتماعية والمالية والتعليمية والطبية، وبذلك يضمن الإجماع بعد أن يفقد المرء شروط إنسانيته بالكامل. لذلك، تبدو تلك العودة "المظفرة" لثلاثية الإقناع، في وادٍ والواقع في وادٍ آخر، فتبدو وكأنها جهد بائد لا نفع فيه ولا فائدة، مثل العديد من العلوم الإنسانية. وهذا، إذا كان صحيحاً أنّ هذه الثلاثية تخضع لمنهج يخص أحد العلوم أو أنها علم قائم بذاته مثلها مثل الفلسفة التي ما عادت تُشكل الرأي العام عبر مُمثليها، كما حصل سابقاً، ويبدو أنها تعيش أزمة ضمير جراء النتائج الرهيبة للحروب التي سببتها طيلة القرن العشرين المنصرم.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها

الكاتب

مقالات أخرى للكاتب