الأحد 2022/10/02

آخر تحديث: 09:58 (بيروت)

أثينا: ملحمة حركية..في الغيتو الباريسي

الأحد 2022/10/02
أثينا: ملحمة حركية..في الغيتو الباريسي
الثورة التي يقودها كريم ورفاقه ضدّ الدولة فلا أهداف منظورة لها
increase حجم الخط decrease
لا ينتهج رومان غافراس، في فيلمه الروائي الأخير ATHENA، المسار التقليدي لبناء حبكة سينمائية تبدأ بتهيئة أرضية الصراع وخلفياته، تمهيداً لتصاعد الوتيرة الدرامية بشكلٍ تدريجي نحو ذروتها. فعند نقطة الذروة نفسها، مجسّدةً بقنبلة مولوتوف، يفتتح غافراس فيلمه بمقدمة ملحمية هي عبارة عن لقطة واحدة متواصلة من 11 دقيقة، تصوّر حفلة جنون وشغب ينفجر باشتعال المولوتوف داخل محطة شرطة، ولا يلبث أن يندفع خارج جدران المحطة ليلفّ معه شوارع باريس، قبل أن يستقرّ أخيراً في احدى ضواحيها حيث تنطلق معركة ضارية، بين سكان "الغيتو" والشرطة، تستمرّ طوال مدّة الفيلم.


كل ما نعرفه عند هذه النقطة، وحتى وقت متأخر في الفيلم الذي تبثّه نتفلكس، هو أن الشرطة قد قتلت طفلا من أصول جزائرية من حيّ "أثينا" الذي يقطنه مهاجرون، ما أشعل ثورة غضب في صفوفهم. لا تفاصيل اضافية يقدّمها صنّاع الفيلم عن حيثيات الحادث وأسبابه. ما يهمّنا هو كل ما سيتلونه.

والحقيقة أن افتتاح الفيلم على هذا النحو هو خيار سينمائي بقدر ما هو خيار سياسي. فلا حاجة للاستطراد والاطالة في الحديث عن عنصرية الشرطة الفرنسية في تعاطيها مع المهاجرين العرب؛ إنها حقيقة تاريخية لا داعي لترديدها. ولا يهدر المخرج وقتاً في بناء قضية قائمة على معطيات موضوعية بغية استمالة عواطفنا واستثمارها بموقفٍ موالٍ لأحد فريقي الصراع، أي أبناء الضاحية الفرنسية. فالتموضع في صف ضحايا العنف البوليسي، وحتى في سياق ثورتهم العنفية، يأتي بشكل تلقائي للمشاهد، تماماً كما أراده المخرج.

إن إنطلاق الفيلم على هذا النحو المشحون درامياً وانفعالياً فيه خطورة وشجاعة، شبيهة بشجاعة الفتيان المشاغبين التي يصوّرها. فكما ليس هنالك من خط رجعة بعد رمي قنبلة في محطة الشرطة، فليس بامكان غارفاس أيضاً التراجع عن مستوى التشويق والتدفق الحركي الذي حدّد له في المشهد الأوّل سقفاً عالياً جداً. لا هوادةً اذاً في الحركة، أو العنف، أو الفورات الانفعالية على امتداد الفيلم. وهو ما تجسّده حركة الكاميرا التي تلحق، بلقطاتٍ طويلة لكن متحركة، الخطوات اللاهثة للشخصيات والآليات؛ فنراها تركض معهم حيناً، أو تقفز من سيارةٍ الى أخرى، ومن داخل آلية الى الشارع (إلخ..) دون انقطاعٍ أو اقتطاع، موظفة خدعاً تقنية تجعل من "أثينا" تجربة سينمائية استثنائية لا تقيّدها حدود الوسيط الرقمي.

لكن هذا التمسرح البصري الذي تتيحه البراعة التقنية لا يأتي على حساب واقعية المشهد، بل يعزّزه اذ يمكث في حدود الوتيرة الأصلية لحركة الشخصيات، بما في ذلك ديناميتهم الداخلية وتفاعلاتهم في ما بينهم. ولا تقتصر هذه التفاعلات على الصراع الأساسي مع الشرطة، بل تظهر التوترات بين أبناء الفريق الواحد، وهم الأخوة الثلاثة للطفل المقتول، الذين يقع بينهم صراع تراجيدي من الطراز الاغريقي. اما في السياق العصري، فيجسّد الأخوة هويات سياسية مختلفة لشخصية المهاجر العربي (الذكر) من طبقةٍ فقيرة: الشاب العقلاني والمندمج في المجتمع الفرنسي عبر وظيفته كجندي في الجيش (عابدل)، الشاب الضال والانتهازي (مختار) الذي يتاجر بالممنوعات ويضرب زوجته، والشاب المراهق(كريم)، وهو الأكثر مثاليةً واحتقاناً بالغضب ازاء الاضطهاد الذي يعانيه مجتمعه.

بلباس الجيش الرسمي، يطلّ عابدل (دالي بنصلاح) على أبناء جماعته، محاولاً تهدئتهم ودعوتهم الى تظاهرة سلمية صامتة، معلقاً آماله على نتيجة التحقيق الرسمي. في هذا الوقت، يقود كريم (سامي سليمان) حركة تمردية مسلحة ضدّ مؤسسة الشرطة بأكملها،تبدأ بإلقاء قنبلة وسط المؤتمر الصحافي الذي يعقده شقيقه، ما يمكّنه ورفاقه من سرقة عتاد الشرطة من داخل المحطة، ثم الهرب في احدى آلياتها الى حيّهم السكني، مستدرجين الشرطة الى ساحة حربٍ حصِنت بالدشم والتحضيرات العسكرية التي تليق بملحمة قتالية مع شرطة باريس. أما مختار (أواسيني مبارك) فلا شأن له بقضية الأخ الثائر أو الأخ المهادن، كلّ ما يهمّه هو حماية مصالحه الشخصية- المخدرات والأسلحة- وابقائها بعيدةً عن متناول الشرطة.

على وقع الموسيقى التصويرية المصممة بعناية لعكس مستوى القلق والاهتياج، تظهر المشاهد الحركية وكأنها لوحات قتالية راقصة، لا تقلّل مظاهر السلاح والعنف من شاعريتها. لعلّ أكثر ما يميّز هذا الفيلم ضمن ثيمة أفلام الحركية هو ذلك المزيج المبهر بين الواقعية والشاعرية. ولا يمكنني، شخصياً، التفكير بفيلم action هوليوودي على هذه الدرجة من الشاعرية التي تتلوّن بها كافة جوانب الفيلم، من السينماتوغرافيا والموسيقى، وصولاً الى الصراع السياسي الذي يشكّل جوهر العمل.

 أما انحباس الحركة داخل الحدود الضاغطة والخانقة لجدران المشروع السكني ودشمه، فهو كناية عن الحيّز الضيق الذي يتيح النظام الفرنسي للمهاجرين التحرّك داخله، بقلّة الموارد التي يتيحها لهم. إن هذا النظام لم يقمعهم بشكل مباشر وصريح فحسب، بل أنه خذلهم على نحوٍ شخصي وعميق، حتى حين آمنوا به وبمثله (حرية- مساواة- أخوة)، كما نرى في حالة عابدل الذي لا ينصفه ولاءه لدولة القانون والمؤسسات، ولا يجعله بنظر الدولة مواطناً فرنسياً صالحاً، بل يداً يمكن للدولة من خلالها أن تطال المجتمع المهاجر المنغلق داخل دشمه.

أما الثورة التي يقودها كريم ورفاقه ضدّ الدولة فلا أهداف منظورة لها أو نتائج تبغي تحقيقها. هو غضب في سبيل الغضب والثأر ضد عقود من التمييز، يسبقها قرابة قرن ونصف من الاستعمار الفرنسي - والدول الأوروبية عموماً-للقارة الأفريقية. إنه حقد تاريخي ينفجر على مدى ساعةٍ ونصف الساعة، مكتسياً رداء الأناركية التي توفي الغضب حقه بالانتقام ومناوءة السلطة من دون أن تحدَّد له قنوات شرعية يمرّ عبرها الى الممارسة والفعل.

إن تلك المعالجة الأناركية لموضوعٍ شائك من هذا النوع، والمترفعة عن تقديم أي مسوغات للعنف أو فتح نقاش بنّاء وموضوعي بشأن إدارة الصراع بين العنف الممنهج والعنف المضادّ، شكّلت محور الانتقادات ضدّ الفيلم، بحجة أنه أفرط في التركيز على الاثارة البصرية، "ولم يقل الكثير" في المقابل. لكن هل على السينما أن تعيد تدوير ما تمّ قوله مراراً في أدبيات تفكيك منظومة العنف بأبعادها السياسية والاجتماعية؟ لا يسعى الفيلم الى تقديم مقاربة متكاملة عن القضية، وهذا ليس شأنه بل شأن الأكاديميين. لكنه أبدع في صناعة لحظة سينمائية نادرة تنتصر فيها العاطفة الثورية على كل نواهي العقل ضد الفوضى.. سواء في السينما أو على أرض الواقع. وهذا كافٍ.

لكن ما يؤخذ على الفيلم هو الغياب التامّ للعنصر النسائي.فثورة الحيّ العربي هي ثورة رجاله فقط، وهنا وقع غافراس في فخّ النظرة الأوروبية الدونية للمرأة العربية بوصفها، ليس ضحية فحسب، بل شخصية سالبة تماماً، لا رأي لها ولا ممارسة. المفارقة الحادّة هنا هو بالرمز الأنثوي الذي يجسّده اسم الفيلم، والحيّ، أثينا.  

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها