الثلاثاء 2022/10/18

آخر تحديث: 14:24 (بيروت)

أمازونيات الرستن: ما الذي حرَمتنا منه السماء وأعطته للرجال؟

الثلاثاء 2022/10/18
increase حجم الخط decrease
أعلنت المديرية العامة للآثار والمتاحف في سوريا، اكتشاف لوحة فسيفسائية أثرية بالغة الأهمية في مدينة الرستن، تعود للعصر الروماني. وأوضحت المديرية في بيانها أن المرحلة الأولى من هذا الاكتشاف تعود إلى العام 2018، حيث ظهرت معالم هذه الفسيفساء ضمن أحد المنازل، بعد الحفر والتنقيب بمساعدة الجهات الأمنية. ثم قام فريق فني بالتوسع في العمل، وأدى ذلك إلى الكشف عن كامل هذه اللوحة التي بلغ طولها عشرين متراً وعرضها ستة أمتار. تناقلت وسائل الإعلام المحلية والعالمية هذا الخبر، وأجمعت على القول بأن هذه اللوحة الفسيفسائية تعتبر من الأعمال المهمة من الناحية الفنية والأثرية، وهي نادرة واستثنائية في ميدان الفسيفساء الرومانية.

تتبع مدينة الرستن محافظة حمص شمالاً، وتشكل نقطة جغرافية استراتيجية بفضل جسرها الكبير الذي يربط شمال سوريا بجنوبها. عُرفت هذه المدينة في الماضي باسم أريتوس، وقد أنشأها في القرن الثالث قبل الميلاد سلوقس الأول، أحد قادة جيش الإسكندر المقدوني، ومؤسس الأسرة السلوقية الحاكمة. بعدها، عرفت أريتوس محلياً باسم أرستان، وهي التسمية السريانية التي ترد في المدونات المسيحية منذ مطلع القرن الميلادي الرابع. ويبدو أن هذه التسمية بقيت حية على مر القرون، مع اختلاف في اللفظ، حيث باتت تُعرف عربياً باسم الرستن. كانت أريتوس عاصمة للمملكة التي أسّستها السلالة الحمصية المعروفة باسم آل شمسيغرام، وقد انتقلت هذه المملكة من الحكم السلوقي إلى الحكم الروماني في القرن الأول، وازدهرت في القرن الثالث بعد زواج الإمبراطور سبتيموس سيفيروس من جوليا دومنا، سليلة هذه الأسرة الحمصية الملكية، وإنجابه منها ولدين شاركاه الحكم، وهما كاراكالا وجيتا.

تعود الفسيفساء المكتشفة حديثاً في مدينة الرستن إلى ذاك العهد الروماني الذهبي، وهي على الأرجح من نتاج القرن الرابع كما يشهد أسلوبها. يتكوّن تأليف الأرضيّة من شبكة من التقاسيم الهندسية منجزة بإتقان رفيع، تشكّل إطاراً زخرفياً للوحتين كبيرتين تحتلان وسط الأرضيّة. تمثل اللوحة الأولى نيبتون، إله المياه والبحار في الميتولوجيا الرومانية، وهو بوسيدون في الميتولوجيا اليونانية، وتحيط به في اللوحة وفق التقليد الشائع النيريدات، أي حوريات البحر الخمسون، وهنّ في سفر التكوين الإغريقي بنات "شيخ البحر" نيريوس، الأبن الأكبر للبحر الأصلي الأول، بونتوس، الذي أنجبهن من غايا، الأم الأولى التي خرجت من كاوس، الفراغ البدائي الذي كان قبل أن تكون غايا. عُرفت النيريدات بأصواتهن الرحيمة، وأجمعت النصوص القديمة على الحديث عن رقصهن حول والدهن، وتم تمثيلهن في الفنون على هيئة فتيات حسناوات متوجات بفروع من المرجان الأحمر، يرتدين أردية حريرية. كانت هذه الحوريات جزءًا من حاشية بوسيدون، كما كنّ لاحقا جزءا من حاشية نيبتون، وترمز كل واحدة منهن إلى كل ما هو جميل ولطيف في البحر، أماّ أبرزهنّ واشهرهنّ فهي تيتس، والدة هرقل، البطل الجبار الذائع الصيت الذي أنجبته أمه البشرية ألكيمني من كبير الآلهة زيوس.

تجليات الجيش النسوي
أهملت التقارير الصحافية التي رصدت اكتشاف فسيفساء الرستن هذه اللوحة، وأولت اللوحة الثانية اهتمامها التي بدت فريدة من نوعها، وتمثّل ما يُعرف بـ"الأمازونوماكياي"، أي معارك الأمازونيات، وهي معارك أسطورية واجهت فيها المحاربات الأمازونيات، جيوش الأغريقيين القدماء. والأمازونيات شعب من النساء المحاربات اللواتي قطعن أثداءهن اليمنى لتتسنى لهن الحرية في استخدام الحراب، وهذا الشعب النسوي ينتمي بحسب الروايات الإغريقية إلى عرق بربري، وقد عُرف بقوته وبجبروته، والشواهد الأدبية التي تبرز هذا الطابع عديدة، منها الملحمة التي وضعها كوينتس السميرناوي (من سميرنا) في نهاية القرن الرابع قبل الميلاد، وفيها تقول عن ملكة الأمازونيات المدعوّة بنثيسيليا: "لا بالقوة نحن أضعف من الرجال، ولا بالعينين، أجسامنا متماثلة، ونرى نورًا واحدًا، ونتنفس هواءً واحدًا، وطعامنا كطعامهم. فما الذي حرمتنا منه السماء وأعطته للرجال؟".

إلى جانب هذه الشواهد الأدبية، تظهر الأمازونيات في الفنون اليونانية بشكل مستمر، وتعود أقدم القطع التي تمثّلهن إلى القرن السادس قبل الميلاد. استمر هذا الظهور بشكل متواصل في الحقبة الرومانية حيث تجلّى في قطع تنتمي إلى أنواع فنية متعدّدة، غير أن شواهده الفسيفسائية بقيت معدودة للغاية، وأشهرها فسيفساء من نواحي انطاكية، بقي منها جزء بسيط محفوظاً في متحف اللوفر، وفسيفساء أخرى من صفورية في الجليل، تحلّ بصورة مختزلة ضمن برنامج تصويري متعدّد الأوجه يزيّن أرضية شاسعة عُثر عليها في منزل أًطلق عليه اسم "منزل النيل"، في إشارة إلى أحد المشاهد التي تحويها هذه الأرضية.

تتميّز فسيفساء الرستن بحجمها وبتأليفها الفريد، كما تتميّز خصوصاً بكتاباتها التي تسمّي الأشخاص الحاضرين فيها، وهذه الميزة بالتحديد تجعلها فريدة من نوعها بشكل خاص، إذ لا نجد في صور حروب الأمازونيات المتعدّدة في النحت والنقش والرسم مثل هذه الأسماء. في صدر اللوحة، تحلّ دائرة تجمع بين مشهدين مستقلين، وحول هذه الدائرة الوسطى تدور معركة حربية كبيرة في دائرة أخرى تحدّها أربع زوايا تحمل كل منها مشاهد ميتولوجية لا تظهر بشكل جلي في الصور التي تناقلتها وسائل الإعلام إلى اليوم. في الخلاصة، تحتاج هذه اللوحة الاستثنائية إلى دراسة علمية متأنيّة مطوّلة، ولا تسمح مجموعة الصور التي التقطت لها إلا بتقديم قراءة تمهيدية لأبرز معالمها.

مَلِكتان
تجمع الدائرة الوسطى بين مشهدين من أشهر المشاهد الأمازونية. المشهد الأول يمثل ما يُعرف بالجولة التاسعة من أعمال هرقل الاثني عشر، وفيها يظهر البطل الجبار وهو يقضي على ملكة الأمازونيات هيبوليتا. يختزل هذا المشهد رواية طويلة تناقلها الرواة على مدى العصور، واستعادها المصوّرون بأشكال مختلفة في الحقبتين اليونانية والرومانية. بحسب هذه الرواية، أُرسل هرقل إلى بلاد الأمازونيات ليأتي بزنار عجيب يعود إلى ملكتهنّ هيبوليتا، وكاد أن يحصل على هذا الزنار بسهولة، غير أن عدوّته اللدودة الإلهة هيرا تربّصت به كعادتها، وأثارت الأمازونيات في وجهه، فدخل مع صحبه في حرب معهن، وقتل في هذه المعركة هيبوليتا، واستحوذ على زنارها السحري.

في المقابل يمثّل المشهد الثاني فصلاً من فصول حروب بطل آخر لا يقل شهرة عن هرقل، وهو آخيل، البطل الرئيسي في إلياذة هوميروس التي تروي فصول الحرب الطويلة بين الإغريق وأهل طروادة. لا نجد أثراً لهذا المشهد في إلياذة هوميروس، غير أنه يحضر بشكل مفصل في العديد من الروايات التي تشكل تكملة لها، وأبرزها ملحمة كوينتس السميرناوي. في الفصل الأول من هذه الملحمة، ترسل أمازونيات كتيبة لمساندة الطرواديين في حربهم ضد الإغريق، وتقود هذه الكتيبة الملكة بنثيسيليا. يدخل آخيل في حرب مع هذه الكتيبة، وفي اللحظة التي يقضي فيها على بنثيسيليا، يحدّق في عينيها، ويقع في غرامها وهي تحتضر. تجسّد الفسيفساء هذا المشهد الختامي بأسلوب مبتكر، ويظهر بين البطلين طفل مجنّح هو بحسب الكتابة المرافقة بوتوس، شقيق ايروس، وحضوره هنا يرمز إلى حالة الوله والرغبة المشتعلة التي اضطرمت في نفس آخيل في هذه اللحظة.

ملوك وأبطال
حول هذه الدائرة التي تجمع هرقل وهيبوليتا من جهة، وآخيل وبنثيسيليا من جهة أخرى، تلتف دائرة أخرى خصّصت لمشهد الحرب الدائرة بين الإغريق والأمازونيات. وفقاً للتقليد السائد في الفن الروماني، ترتدي كلٌّ من المحاربات الأمازونيات ما يُعرف بالقبعة الإفريجية، وهي القبعة الفارسية التي تجعل منهن رمزياً شبيهات بالعدو الأكبر للرومان. في المقابل، يرتدي كلٌّ من المحاربين الإغريق الخوذة اليونانية التقليدية. تحضر هذه "الأمازنونوماكي" في تأليف فريد لا نجد ما يماثله إلا في مجموعة من القطع الخزفية الدائرية التي تعتمد تقنية الـ"تراكوتا"، أي الطين المحروق. كما أشرنا، يتميز هذا التأليف بكتاباته العديدة التي تسمّي تباعا أسماء الحاضرين في اللوحة، وفي قراءة سريعة، يَمكن القول إن بعض هذه الأسماء تعود إلى عدد من مشاهير الإغريق، والبعض الآخر يعود إلى أشخاص يصعب تحديد هويّتهم من دون الولوج في بحث علمي دقيق.

من أسماء المشاهير، يحضر على سبيل المثال: باتروكلُس، صديق آخيل الحميم الذي قُتل على يد هكتور، الابن المفضل لملك طروادة بريام وولي عهده. مينلاوس، ملك أسبرطة الموكيانية، وزوج هيلين التي خانته وهربت مع بارس، ابن بريام ملك طروادة. أغاممنون، أخو مينلاوس الأكبر، وهو ملك موكناي، وقائد الحملة التي ذهبت إلى الحرب لاستعادة هيلين زوجة أخيه. أيدومينوس، حفيد مينوس ملك كريت، وقائد الكريتيين في حرب طورادة. ثواس، وهو ملك أيتوليا وأحد الذين قاتلوا من أجل اليونانيين في هذه الحرب.

تحفة استثنائية
قيل عن فسيفساء الرستن أنها "استثنائية على مستوى العالم"، ويبدو هذا الكلام صحيحاً إلى درجة كبيرة، والمطلوب اليوم حفظها وعرضها وإبرازها ودراستها بشكل واف، فهي إرث متوسّطي عالمي بقدر ما هي إرث سوري محلّي. تجدر الإشارة هنا الى أن هذه الفسيفساء تأتي ضمن سلسلة من الاكتشافات الفسيفسائية التي ظهرت في محافظة حمص في العقود الأخيرة، مما يوحي بأن أعمال التنقيب والبحث المتواصل في هذه المحافظة كفيلة بالكشف عن مفاجآت أخرى من هذا الطراز في المستقبل.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها