الثلاثاء 2022/10/18

آخر تحديث: 15:31 (بيروت)

"نوال" لينا أبيض: "المرأة العورة" متأهبةً للقفز فوق العتبة

الثلاثاء 2022/10/18
increase حجم الخط decrease
من النافل أن تكون نوال السعداوي محل انتشار، بنصّها وشخصها، عبر أربع نساء فوق خشبة المسرح. بل من النافل أن تكون محل انتشار عبر النساء كلهن رافضات الخضوع للفضاء الثقافي الذي يحدد مكانة المرأة في العالم عطفاً على موروث ديني يحط من شأنها بإطلاق.

تقول السعداوي في رواية "سقوط الإمام" الصادرة عن دار الساقي في بيروت: "في الحلم يتراءى لي الله على شكل رجل واقف في الظلمة...".

افتُتحت مسرحية "نوال" للمخرجة لينا أبيض، وممثلاتها الأربع، في مسرح "مونو" بجمالية مشهدية انسحبت على العرض حتى حدوده الأخيرة. ولعل كثراً مثلي، بين الجمهور، استبدّ بهم النص مثل مَسْرَحته، أو ربما أكثر... وهل تتم مسرحية من دون تمثيل؟ يسأل الناقد المسرحي الشهير إريك بنتلي، ليجيب بنفسه إن الخيار يعتمد على المزاج: فمحبو الأدب، يقول بنتلي، يؤمنون بالنص "الحاف"، ومحبو المسرح يؤمنون بالتمثيل، وكلاهما على حق، بحسب الناقد الأميركي.

رأيتُ إليّ وأنا أتابع العرض، أنشدّ أكثر إلى النص المتداول فوق الخشبة بالعامية اللبنانية، ما خلا بعض الجُمل المستقاة من نصوص للسعداوي، فمزاجي على الدوام أقرب للأدب. كان النص طوال ساعة العرض محل اشتداد أو ارتخاء عطفاً على الثيمة موضوع الحكي، وقد بلغ هذا الاشتداد ذروته إزاء تناول ثيمة الجسد، جسد المرأة كما صير إلى صياغته في المتن السعداوي العام، رغم أنه ثمة في السرد النصّي للعمل موضوع المعالجة، ما لم يُلبِّ دائماً الدفع الذي أرادته السعداوي عبر كتبها، بل حتى عبر حياتها الشخصية.

لفّ تردد مقصود جُملة الكلام الدائر فوق ألسنة الممثلات، بالرغم من الدفق الإدائي الذي صاحب هذا الكلام، بحيث أن التواري المدروس، وخفوت "الصوت" بالمعنى المجازي للكلمة، كان سيّد الكلام... ثمة انضباط كان لا يني يطلّ برأسه فيعمل على ترتيب القول بما يشي بـ"ما بدنا وجع راس". وقد يكون هذا الأمر مفهوماً بل ومبرراً، أخذاً في الاعتبار السطوة التي تتمتع بها المرجعيات الدينية الإسلامية والمسيحية في لبنان اليوم.

لكنه دائماً الجسد المتذمّر للمرأة، والمآلات التي أرادتها نوال السعداوي عبر جملة نصوصها حيال هذا الجسد. وقد بلغ هذا الأمر ذروته مع استشهاد "سعداويات" المسرحية الأربع بأحاديث الأنبياء. مساءلة السرديات الكبرى، على الأرجح، لا يستوجب التحلّي بالمهادنة والمسايرة وبشكل خاص لا يجب أن يقف عند حدود العتبة. ففي العرف اليوناني القديم، أن الحوار، والحوار المسرحي ضمناً، يعني الخروج من البيت (الإيكوس) وعدم التقيد بحدود العتبة. وبالتالي فإن نسف مقولة "جسد المرأة عورة"، لا يستلزم القفز فوق العتبة وحسب، إنما تحطيم جدران البيت ومساءلة الرب وأنبيائه.

وإن كان إله تلك الممثلات خفيفات الظل، في بعض متونه، حليماً وسيماً متفهماً، بل وملجأً لهن، هرباً من سطوة "ذكوره" الذين يعيثون في جسد المرأة خراباً، فإن رأسه، في أحد نصوص السعداوي: "يلمع تحت الضوء بغير شعر ووجهه يغطّيه الشعر".

طروحات جريئة قدمها النص المتداوَل فوق ألسنة "سعداويات" مونو، وصولاً إلى مقاربة مقاربة المقدس الذي يؤسس لمقولة "جسد المرأة عورة"، وهذا بالذات ما شابَه بعض التردد، أو ربما لم تعتبره المسرحية سؤالها الأول. علماً أنه، في النهاية، للمخرجة خيارها الفني الحر في زاوية الجدلية المسرحية التي ستركز عليها، بل وربما أيضاً في الاشتباك مع النص ومحاوَرته، ومن هنا تختلف المسرحية عن الكتب. ومع ذلك، خطرت لي تلك العبارة العذبة لموريس بلانشو: "جميع الأسئلة التي نطرحها، لا نطرحها إلا استعاضة عن السؤال الذي لا نجرؤ على طرحه".

بذلت ممثلات المسرحية جهداً كبيراً لبلوغ شخصية السعداوي وأفكارها عبر هذه الصياغة المسرحية، وهذا يُحسب لهن. لكن السعداوي لطالما تمتعت بجرأة نارية، لم يكن من السهل تبنّيها أو مجاراتها في زمنها، ولا حتى في الزمن الراهن، وإن كانت الاستنارة بوهجها دوماً ذات دلالة، من دون السقوط في المُتداوَل المنفلش كي لا نستعمل كلمة "كليشيه".

فالمرأة "ذلك الجسد غير المرئي والذي لا يحوي إلا الرحم"، تقول نوال السعداوي. وفي تصدّيها لما رأت أنه حقيقة النظرة الإسلامية للمرأة في عبارتها تلك، لم تستأنس السعداوي بنبيّ الإسلام للوقوف بقربها في فعل التصدّي. إنه الموروث الإسلامي الحقيقي، تقول السعداوي، والمستمد من أحاديث نبوية وفقهٍ متجذر منذ قرون، وهو بالتالي ليس اجتهاد رجل دين من هنا أو آخر من هناك، بل الشريعة بأمها وأبيها.

ثمة من قال مرة أنه يجب على الدوم أن نبني بيتاً من الحجارة التي يرمينا الناس بها، إلا إذا كان مصدر تلك الحجارة برجاً مثل برج بابل، إذ يجب عندئذ أن نهدم البرج كله. ولا ريب أن اعتبار جسد المرأة عورة هو بمثابة الفضيحة في أي مجتمع، وبالعودة إلى إريك بنتلي: على المسرح أن يكون امتداداً لكلامنا عن الفضائح.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها