الإثنين 2022/10/17

آخر تحديث: 12:20 (بيروت)

"زهر القطن" لخليل النعيمي...كل ما في البادية يصلح للأكل

الإثنين 2022/10/17
"زهر القطن" لخليل النعيمي...كل ما في البادية يصلح للأكل
الحماد يحوي كل شيء، أسباب البقاء وأسباب الموت، وما على الكائن إلا أن يختار
increase حجم الخط decrease
"زهر القطن" هي الرواية العاشرة في مسار الكاتب السوري خليل النعيمي، الذي بدأ برواية "الرجل الذي يأكل نفسه"، والتي شكل صدورها في مطلع سبعينيات القرن الماضي، عن دار العودة في بيروت، حدثاً في الرواية السورية، التي كانت تدور في العوالم السياسية والاجتماعية للمدن الكبرى. وكسر ابن البادية السورية، هذا الحاجز، ليأخذ الكتابة الروائية نحو مكان وزمان مختلفين، وقدم بيئة أخرى غير التي عهدها القارئ العربي عن رواية المدينة الجديدة. وساعد على ذلك أن الكاتب تجاوز البنيان الروائي الذي كان يدور فيه الروائيون السوريون، ونقل اللغة الروائية إلى مستوى جديد، عندما فجّر فيها طاقات كامنة لم يقترب منها أحد، وجعل للعربية المحلية التي يتحدث بها أبناء البادية، حصة من التجديد الذي قام به عن وعي، واستمر عليه في أعماله اللاحقة. وقد أثّر ذلك في أجيال من كتّاب منطقة الجزيرة السورية، الذين فتح النعيمي لهم الطريق كي يروا في بيئتهم مادة خاصة خصبة، سحرية، غنية بالرموز، وقابلة لأن تتشكل بأشكال مختلفة، لا تقع في التكرار والاستهلاك، ولا تنسج على منوال غيرها.

ومثل مشّاء متبصر بالمكان، هندس النعيمي المسار الروائي الذي اتبعه، وما بين كل عمل وآخر يبني محطة جديدة، تختلف عن سابقتها بوعي بالعمل وبالمكان، الذي ظل يزود الكاتب بالرموز، ويفتح أمامه آفاق أكثر رحابة وتنوعاً، ما أبقى على الحرارة والدهشة والغرابة والسحرية في كل عمل من أعماله، الذي يشكل في كل مرة مفاجأة، تبدو قوية بالانتقال من رواية لأخرى. فمن الرواية التاسعة التي حملت اسم "قصاص الأثر" إلى الرواية العاشرة "زهر القطن"، صِلة لا يدركها إلا من واكب مشروع هذا الكاتب. قصاص الأثر هو صاحب المكان الأول وابن البادية، التي تبقى بمثابة الأم. وهذا القصاص إنما يتقصى هذا الرحيل الدائم في التيه الصحراوي الواسع، وهو يبحث عن ذاته التي تنازع كي تتحقق كفعل ممنوع من الصرف ومحاصر من كل الجهات.

رواية "زهر القطن" الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، تأتي أكثر تكثيفاً من بقية الأعمال لجهة الإشارات البعيدة المنبثقة عن العمل على نحو غير مباشر، من أجل استكمال تلوين بعض المساحات في بورتريه "الرجل الذي يأكل نفسه"، والمتشكّل من كلمات أنقذته من الموت. فهو أينما اتجه، لا يجد سوى الكلمات تزهر في قلبه وعقله. حين يداهمه الضباب، يتحول الكلام إلى بحر عميق. لكن البرية كلها كلام. وفي الصحراء المفتوحة على الآفاق وبلا جدران، امتحان الكلام، فمن أراد أن يتكلم عليه أن يتعلم. والكلمات هي التي تعلم بعضها، ويصبح التعليم والمدرسة بمثابة دودة يزرعها الأب في قلب الصبي لتحدد مصيره، فالمعرفة في الحماد ملقاة على وجه القاع، والخبرة شيء آخر.

الأب والصبي والمرأة البيضاء التي تشبه زهر القطن والصحراء أو الحماد وبادية الشام، عبارة عن خطوط أساسية تتقاطع لتشكل العمل الروائي. ويتحول الوالد إلى منارة يهتدي بها الصبي الذي يدرك مبكراً ما ينتظره، وما عليه أن يفعله. وبين الأب الذي يجيد محو العثرات رغم أن أيامه كانت سوداء ومرهقة كالزنجار، لكنه يصر على اعتبارها بيضاء كالثلج الذي رآه على جبال طوروس، وبين الأم التي لا تكف عن الأنين لألم الذكرى، يعيش الصبي على نحو إرادي، وحدة طبيعية، غير مفروضة عليه، ومثل جرو صغير لا يهمه من العالم إلا المكان الذي يعيش فيه.

نشأ والد الصبي يتيماً وأعزل حتى في عواطفه وأسراره، وعاش بالرغم من قسوة البلاد والعباد، وكان مصمماً على البقاء حياً بأي ثمن، حتى لو أكل جرابيع الأرض. وتعلم من الطبيعة الحذر، وهي التي صقلته ومنحته صفاتها، وصار يعرفه أكثر من الخوف، ويعتبره أفضل شيء في الحياة، وليس الغنى، وأخذ يعرف أين يجد مأكله ومشربه، ومن شاهده كيف اقتحم العزائم للفوز بأكبر كمية من الثريد، صار يقول، من هول ما يرى، "هذا لن يموت من الجوع". ولم يكن يتعب نفسه بالبحث عن المليح والمريح، بل يأكل ما تقع عليه اليد، وهو يعرف أن وجوده مَدين ليديه وقدميه أكثر من أي شيء آخر، وحياته العاقلة هبة عناصر الطبيعة التي عاشرها أكثر مما عاشر البشر. ولأنه درب حواسه على التماس مع عناصر الكون والتعايش معها، اكتشف مزايا جسده التي لا تحد بعدما صارت المصائب خلفه، ومَن لم يمُت صغيراً لن يموت إلا إذا رماه القدر بسهم نافذ يدمي فؤاده، حتى العربيد الأسود المشؤوم الذي ظل يلاحقه منذ كان طفلاً لن ينال منه، لا يخاف التبدل والانتقال، لكنه يخشى الركود.

هاجس الصبي أن يصيبه شيء من الألق السامي الذي يتمتع به أبوه، مع أنه لا يعرف كيف وصل أبوه إلى هذه الحال. حال الحصان الذي بلغ غاية الشوط ولم يربح السباق، وهو ما جعله يتعجب من حال أبيه، متسائلاً: "لماذا يبدو أبي سعيداً، مع أن ما يعيشه لا يرضيه، ولا يعبّر عما يرغب فيه"؟ ومن ذلك ينشد الصبي أن يتعرف على العالم الذي نشأ فيه بكيفية غير قوة الحدس الذي يتمتع به أهل البر من أمثاله، حيث لا مدارس ولا صوامع ولا معلمين، بل تتبرع الطبيعة العظيمة بتعليم أبنائها النابهين. ومع ذلك، لا يريد سوى أن يكون الطفل الذي يتكلم عنه أبوه فعلاً، فهو الديك الفصيح كما وصفه أبوه في مجلس القبيلة. لكن ما يملأه بالنشوة هو الوعد بالذهاب إلى المدرسة، وهو أمر أسعد والده الذي كان يدرك صعوبة تحقق ذلك، لكنه مُصرّ ألا يسلك ابنه الدرب الذي سلكه لأن ذلك ضد الله والطبيعة والحياة. ومثل صغار الأحياء التي تملأ الأرض من حوله، كان الطفل يتعلم بالتدريج، وبالإضافة إلى الحس الأرضي عنده كان يتصيد الكلمات، فلم يكن يغفو قبل أن يسمع أقاويل أمه وأبيه. وفي لقائه العفوي مع عناصر الطبيعة تكمن غبطته العميقة التي ستتحول مع الزمن إلى منبع لسعادته اللاحقة. لكن لحظة المدرسة في السنجق هي نقطة التحول في حياته، وأول مفاجأة كانت خبز القمح بعدما عاش سنوات في الحماد على عصيدة الذرة.

الجوع في الصحراء مرادف للموت، حتى أن الواقع القاسي ينسف قواعد الحلال والحرام. وعندما يداهم الجوع من هم بلا أهل، يسقط خط الحرام، ليصبح كل ما يحتاجه الانسان كي يحيا محلّلاً. وفي أحيان، يصبح الجوع حملاً عظيماً لا يمكن التكهن بمآلاته، ويصير البحث عن بصَلة مسألة معقدة، وعندما لا تكون موجودة تستوجب استعارتها من الجيران، وهذا يعني فتح باب الأسئلة، والخطورة تكمن في فتح الأبواب المغلقة، لكن لا بديل عن ذلك. غير أن ما يحرر الكائن من الجوع هو "عزة النفس"، التي تلجمه عن السؤال، وتدفعه ليأكل ما يَجِد. وفي الصحراء يتمسك البدوي بحديثه "عصاتي وعباتي يا رب تقبل صلاتي"، صلاة التيمم بلا وضوء، فالسماء رحيمة والأرض تعطينا ما تملك، و"الله ليس متزمتا"، وحين يطرح عليه الرجل الآخر سؤال الماء، يأتي الجواب: ليس هناك ما يكفي منه للشراب.

تعلي الرواية من صمت الصحراء الآسر في بادية الشام، وحين يرتجف المرء ليس من البرد، لكن من ألق الكون الذي يحيط به. صمت الطبيعة الأم التي تمنح الحياة. الأنفاس هناك تتلاقى بلا عوائق، وكذلك العقول والقلوب، ولا يمكن لأحد أن يحيا في الصحراء إذا تهيب الآخرين. هذا بعض مما يلتقطه الصبي من الوالد، وما تعلمه إياه البيئة القاسية، وعليه أن يدافع نفسه بحنكته الفطرية وامكاناته البدائية، ويدافع عن وجوده حتى لا تلتهمه الدنيا مثل هشيم لا خير فيه. وتبقى الدنيا مثل الخانات المنثورة على الدروب، يلجها العابرون ليقضوا حاجاتهم قبل أن يتركوها، والأريب هو الذي يجد له دار أينما حل. وهذه الكلمات التي تتردد أمام الصبي آلاف المرات تصير عنده حقيقة ليبني لنفسه داراً للحلم، يجعلها بهيئة المستاء عندما يشك أحد في حقيقة أحلامه.

العجاج في الصحراء حالة تحول وتبدل في تناوب الفصول، الليل الذي هو قبر العالم، يصبح في الحماد آسراً. وبرد آخر الليل مثل نهايات الليل الآخذ بالانقشاع. حالك السواد يثير الخوف والاسئلة. الحماد يحوي كل شيء، أسباب البقاء وأسباب الموت، وما على الكائن إلا أن يختار ما يريد، فالطبيعة هي التي تهندس البشر وتجعل الناس مختلفين، هناك من يرى ويتعلم، وهناك من لا يرى ولا يتعلم، وهناك آخرون. وفي نهاية المطاف هناك لحظة للرحيل عن المكان، وهي شديدة القسوة، رغم إحساس الكائن الصحراوي بأن البر جزء منه، والحماد مملوء بكل شيء وكل ما فيه يصلح للأكل، قاع واسع يخبئ أسرار الوجود. وهو لا يخدع أحداً، مخزن الحياة. وموعد اللقاء مع الكمأ الذي يشبه النهد الطالع.

المرأة البيضاء الناعمة مثل زهر القطن، التي لقطها من البرية مثلما يحوش نبات الحيلوان حينما يكون جائعاً. وجدها فوق سطح الكوكب الأرضي، بيضاء ناعمة كالحرير، وبلا لسان. كانا وحيدين فالتقيا. متعددة في الظلام، تتحول إلى امرأة الليل الذي يسري في العروق، التي تحط بشغف كما يحط نسر جائع على فريسة لبدت من شدة خوفها منه، كي لا يرى أحد سوادهم في السواد. وحين تشمّ رائحة الأخرى تظل تبحث عن صورتها، وحين لا تجدها، تكتفي بأن كل ما يدخلها مِلك لها حتى ولو كان من وحي واحدة أخرى غيرها، فتنفتح على آخرها مستجيبة كي تلم بحركاته فوق تثنياتها الآسرة، بينما تظل الأخرى على وعد العودة في الربيع المقبل، كي لا تموت الذكريات. وحين يتلعثم مع الأولى، ويخذله الأداء لا يستطيع الشرح، كونه لم يتعلم الشروحات، يعرف فقط كيف يأكل ويمشي ويحكي، ويبطح النساء بعد أن يغريهن. لكنه، من تجاربه المريرة، صار يعرف أن الكائن لا يسمع بأذنيه فقط، بل هو يسمع أحياناً بجلده وعينيه، وتكون النتيجة حياة مبنية على الحيلة، أفضل من حياة قائمة على الغفلة، ويكفي أنه يكذب من أجل إرضائها. وما يجعل اللعبة أكثر متعة هو أنها، على عكس العالم، ترى أن حبل الكذب أطول، ويمكن التفنن فيه كيفما نشاء. هي تعرف أنه يكذب وهو يعرف أنها تعرف، لكن الكائن ليس بحاجة إلى الصدق ليكون سعيداً، إنه بحاجة إلى التسامح. ومن أجل تلك الأخرى التي ذهبت نحو الجنوب، قرر أن يبلغ الشمال، حتى لو لم يكن باستطاعته أن يفعل ذلك. دربه غير دربها، هي جنوب وهو شمال، يتبصرها، يتراءى له زولها من بعيد، ويدوخ. منذ النظرة الأولى ارتبطت نفسه بها ولم يعد قادراً على عدم البحث عنها، ولا منع عيينيه من رؤيتها.

رواية فيها قدر كبير من التكثيف من أجل الإلمام بعالم الصحراء المفتوح، وتأتي عن مهنية متميزة في السرد، حتى أن هناك بعض الفصول التي تمتد على مساحة خمس صفحات، وهي تخلو من الفاصلة ولا تحظى سوى بنقطة الختام مثل الفصل التاسع والعشرين. في حين أنه يفتتح الفصل الذي يليه بجمله قصيرة جداً وفاصلة، ويعود إيقاع الكتابة إلى التقطيع العادي. والتفسير الوحيد لذلك هو أن الفصل الذي خلا من الفاصلة والنقطة كان عبارة عن كابوس.

لا تخلو الرواية، كما بقية أعمال النعيمي، من مسحة فلسفية تشد أواصر البناء الداخلي، وتعضدها بقوة. وهي في هذا العملية أكثر صراحة، لكنها لا تجرح رهافة السرد، ولا تأخذه نحو الجدل، بل يبقى منساباً على إيقاع الصحراء، له حكمتها وقوتها وسحر معجزاتها. لكنها في الثلث الأخير تدخل في السيرة الذاتية للكاتب، وبدءا من الصفحة 182 يعود النعيمي إلى الفترة التي دخل فيها المدرسة الابتدائية في قرية "سنجق شيخموس" في عامودا التي يصف أجواءها في تلك الأيام في سياق الانتقال بين عالمين. وهي تمثل له المدينة الأولى الأسطورية المرمية تحت جبال طوروس، حيث رست سفينة الخلق "سفينة نوح". ومن بعد ذلك ينتقل إلى الحسكة لدراسة المرحلة ومن أجل متابعة دراسته صار أهله، شيئاً فشيئاً، يتقربون من الأراضي الخصبة حول الخابور، وعلى شواطئه تمتد حقول القطن، في هذه الحقول اللانهائية يتفتح زهر القطن، أبيض ناصعاً، حريرياً كالأثداء، وبعد حقول القطن المفعمة بالارتعاشات الحسية المبهجة سيرحل إلى دمشق الشام، وتلك سيرة أخرى.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها