الأحد 2022/10/16

آخر تحديث: 09:15 (بيروت)

"البحر خلفكم والعدوّ أمامكم":الترسيم وحزب الله وطارق بن زياد

الأحد 2022/10/16
"البحر خلفكم والعدوّ أمامكم":الترسيم وحزب الله وطارق بن زياد
إلى أين سيصل حزب الله في مساره الجديد
increase حجم الخط decrease
كم تغيّرت أحوال حزب الله بين 17 تشرين الأوّل 2019 و17 تشرين الأوّل 2022. 
آنذاك، لوّح السيّد حسن نصر الله بخاتمه الأميريّ، واتّهم الثوّار السلميّين بأنّهم يشتغلون لدى السفارات ويتقاضون من الأميركان فلوساً بالدولار الفريش كي ينزلوا إلى الشوارع ويصنعوا أهمّ حراك مدنيّ في تاريخ لبنان. ثمّ أرسل المجاهدين كي يجتهدوا في اقتلاع منصّات المعتصمين وإعمال النار في خيامهم الهشّة. 

واليوم يصفّق حزب الله مغتبطاً بصفقة ترسيم الحدود البحريّة التي اجترحها مبعوث أميركيّ فوق العادة ذو اسم ألمانيّ الأصل ويحمل الجنسيّة الإسرائيليّة. هذا الاتّفاق، في حال توقيعه والسير به، سيحوّل مياهنا البحريّة الجنوبيّة إلى منطقة اقتصاديّة خالية من الحروب نتقاسم فيها ثروات النفط والغاز مع إسرائيل، جارتنا في الجنوب، بضمانات أميركيّة. وهذا كلّه يستجلب أماناً وطمأنينةً وحرّيّة تنقّل وفنادق وفرص عمل ومالاً مدراراً، طبعاً إذا تطابق حساب حقل الترسيم مع حساب بيدر ما سيُعثر عليه في الأبيض المتوسّط من خارج السمك وثمار البحر. 


لا يجد حزب الله غضاضةً في هذا كلّه. فالإيديولوجيا القديمة التي تروّج لسيّد المقاومة الذي يذهب كي يصلّي في القدس، عملاً بنصيحة فيروز، بعد حرب ضروس تحرّر الأرض يبدو أنّ صلاحيّتها شارفت على الانتهاء، أو انتهت فعلاً. فمن يصدّق أنّ مَن يستخرج الغاز في البحر يخوض حروباً ضدّ المحتّل في البرّ؟ هذا، لعمري، يتخطّى بأشواط خيال طارق بن زياد الذي يقال إنّه أحرق سفن أسطوله البحريّ وهتف بالمجاهدين: «البحر خلفكم… والعدوّ أمامكم». أمّا الذين منّوا النفس من الإخوة الفلسطينيّين بأنّ سيّد المقاومة هو صلاح الدين الجديد الذي سيحرّر القدس مستعيناً بفيلقها الفارسيّ الغنيّ عن التعريف، فعليهم أن يعيدوا النظر في حساباتهم؛ لا لأنّ الحاجّ قاسم سليماني قد طواه الردى فحسب، بل لأنّ حزب الله، أغلب الظنّ، بات اليوم جزءاً لا يتجزّأ من معادلة اقتصاديّة كبرى في شرق المتوسّط أرساها الأميركيّون، ويسيل لها لعاب الفرنسيّين، عنوانها الغاز والمال والرخاء والبحبوحة. أمّا مَن كان يحلم بتحرير القدس، فعليه أن يبحث بسرعة عن استراتيجيا جديدة. والله كريم جوّاد «يقبل الأعمال ويسرّ بالنيّة»، كما كتب يوحنّا الذهبيّ الفم ذات يوم. 

لا غرو أن يسعى حزب الله إلى إعادة إنتاج ذاته عبر تغيير ال look والبحث عن بروفايل جديد. قبل مدّة ليست بقصيرة، راحت أبواقه «المثقّفة» تروّج لعزمه على التخفّف، شيئاُ فشيئاً، من حمولة الأجندة الإقليميّة والعودة إلى الداخل اللبنانيّ. والحقّ أنّ الحزب في وضع لا يُحسد عليه على الرغم من سعيه إلى الترويج للعكس، وهذا تكتيك إيرانيّ تعوّدنا عليه. لقد أرهقت الأزمة الاقتصاديّة كاهل جمهوره، ومعظم الشعب اللبنانيّ يحمّله مسؤوليّة انهيار الدولة على رأسه ورؤوس كلّن يعني كلّن. ولعلّ الحزب يحدس بأنّه يقيم في معضلة هي أشبه بالدهليز في الأسطورة الأغريقيّة القديمة. فهو لا يستطيع الحلول محلّ الدولة، لكن لا مصلحة لديه أيضاً في بنائها، إذ إنّ تسجيل أيّ سهم في رصيدها يستتبع خسارة سهم في رصيده. يضاف إلى ذلك أنّ نظام الملالي في إيران يترنّح تحت ضربات بنات حوّاء، أجمل خلائق الله. والحكماء هناك منقسمون على خلافة المرشد. وتتربّص بهم تجربة العودة إلى متلازمة التوريث التي ثاروا عليها حين أسقطوا الشاه. ومن ثمّ، الذهاب إلى اتّفاق ترسيم الحدود مع إسرائيل تصعب قراءة دلالاته ما لم نضعه في سياق سعي حزب الله إلى تلميع صورته أمام المجتمع اللبنانيّ بكونه صانع «ملحمة» الترسيم، ومحاولته الالتفاف على تداعيات ثورة 17 تشرين وانفجار مرفأ بيروت التي عرّته بوصفه حامي المنظومة الفاسدة والساهر الأمين على محميّاتها. 

إلى أين سيصل حزب الله في مساره الجديد، وإلى أين يقتادنا معه؟ لا شكّ في أنّه سيسعى إلى تقريش الانتصار الإلهيّ الأخير على الجارة، التي رتّبنا معها أمورنا الاقتصاديّة في البحر، عبر انتخابات رئيس الجمهوريّة وغيرها من الأمور المعلّقة في الجنائن المعلّقة. لكنّ اللعبة ما عادت تنطلي على أحد. فمنذ ثورة 17 تشرين الغرّاء التي نعيّد غداً لذكراها الثالثة، تغيّرت أمور كثيرة في العقول والذهنيّات. فاندثرت الحريريّة السياسيّة، وأعلنت العونيّة السياسيّة إفلاسها، وانفضحت النوايا المبيّتة، وأظهر الشعب اللبنانيّ وعياً مدنيّاً عظيماً عبر إسقاطه عدداً من رموز العهود البائدة وإدخاله الثورة إلى البرلمان، حتّى ولو كان نوّابها ما زالوا يبحثون عن هويّتهم ويتخبّطون في مراهقاتهم السياسيّة وخلافاتهم التافهة. وحده جمهور المقاومة يبدو، في غالبيّته، خارج اللعبة، لكونه يصدّق ما يقوله القائد وهيهات منه أن يسائله. ولا يغيّر في هذا أنّ النساء في إيران يقصصن جدائلهنّ، والأمّهات ينتفن شعورهنّ حزناً على البنات «المنتحرات» من فرط الغرام، فيما الدم يسيل في أحواض الزهور وعلى أطراف الإيوانات الملتمعة في وهج الشمس.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها