الجمعة 2022/10/14

آخر تحديث: 19:46 (بيروت)

يموت الحدث ولا يفنى أبطاله

الجمعة 2022/10/14
يموت الحدث ولا يفنى أبطاله
من معرض ألفرد طرزي "ذاكرة مدينة من ورق" (غيتي)
increase حجم الخط decrease
الحدث، إذ نستحضره ونكتب عنه، هو حدث ميت، نحيي ذكراه كوننا لا نستطيع إحياءه ولا إحياء ما يصححه أو يأتي بعدالة لضحاياه.

13 تشرين (هروب الجنرال عون ودخول الجيش السوري المناطق المسيحية)، و14 تشرين (أحداث الطيونة)... لا، فلنكتب عن 17 تشرين (انتفاضة 2019)، فلا نمكّنهم من احتلالاتهم المتمددة، على الأقل في الروزنامة، روزنامتنا. لكننا سرعان ما ندرك، أو بالأحرى نمارس اعترافنا السنوي، بأن 17 تشرين قد أسلَم بدوره الروح وإن كان ناسه ما زالوا ينازعون من حلاوة الروح نفسها.

الحدث اللبناني، حين يموت، لا يكرم بدفنه، أو لعله يكرم بلا دفنه. لكن المؤكد أن شخوصه لا يَفنون ولا يبقون. مومياءات تسير بيننا، أو لا تسير. تخطب فينا أو تفوز بانتخاباتنا. وبعضها، منّا، يسعى - ما استطاع - للبقاء على قيد تحنيطه.

7 أيار (غزوة "حزب الله" لبيروت والجبل)، 22 تشرين الثاني (عيد الاستقلال)، 14 شباط (اغتيال رفيق الحريري)، 8 و14 آذار، 4 آب (انفجار مرفأ بيروت)، 25 أيار (تحرير الجنوب اللبناني من الاحتلال الإسرائيلي)، 26 نيسان (طرد الجيش السوري من لبنان)... أحداث ميتة، وأبطالها أشباحها الهائمة بنشاط على وجوهنا، وما زالت تستطيع إتيان أحداث وأحداث ميتة أخرى. وضحاياها ساكنة أحلامنا، مسلوبة الأصوات والحق في الدنيا وما بعد الدنيا.

تلك أحداث فعلت فعلها، في أوانها. تُزهِق، كل مرة، بعضاً من الحياة، ثم تصير "ذاكرة"، مهما شددنا تلابيبها، حباً أو كراهية، حزناً أو غضباً. كم باتت سقيمة هذه الكلمة، لا تبني على شيء، ولا يُبنى عليها شيء. ذاكرة. رمال متحركة وظيفتها البلع، بلا فوق وبلا تحت.

الكائنات الحية الوحيدة في لبنان الآن، هي القصص... تَرويها الزومبيهات. لكن زومبي القبيلة "أ" لديه قصة مختلفة تماماً، عن الحدث المرحوم، مما يرويه زومبي الكانتون "ب". هذا هو التعدد، الديموقراطية تشاركية السرديات. وهذه أيضاً هي الحرب المرويّة، خطوط تماسها تخوم احتضار لا يُنجَز عن آخِره فيتمّ، ولا ينتفي فينتهي.

من الأحداث التي لم تمُت: 13 نيسان (ذكرى اندلاع الحرب الأهلية)، وبديهي لماذا، بديهية الحرب المستمرة على البارد بأشكال ولبوس متنوعة.

وكذلك 17 أيار (1983 المُسقَط بين الحكومة اللبنانية وإسرائيل)، لم يمُت. فهذا حدث ماكث، واقعة المقارنة مع اتفاق ترسيم الحدود البحرية المُعلَن قبل أيام. فحين يفرض مفصل تاريخي نفسه، بعد كل هذه السنوات، كمرآة لمعاينة اليوم الراهن، ويظل جزءاً من الكلام عنه، فمعنى هذا أن الحياة تدبّ فيه، وأنه لم يأتِ بعد أوان استبداله بحكاياته، بذاكرته. شخوص الحدث هذا، وإن هرِموا، أحياء أيضاً بما يمثّلون.. فيما شخوص الحاضر يصفقون ويحتفلون لاتفاقية الترسيم مع دولة لا يعترفون بها، لكنهم يرسمون خطوط جِيرَتها في الماء، ويأكلون عنباً ويعفون النواطير من تهديدات الماضي.

عندما قال نيتشه "لقد مات الإله"، فإنه أراد أن يعلن انسحاب مركزية المفهوم الإلهي في الحضارة الأوروبية الغربية بأثر من عصر التنوير. أعلن ما رآه انتصاراً للعقلانية العلمية والفلسفة المادية والنزعة الطبيعية، على الكُشوف المقدسة، ما أدى إلى التحلل من دور الرب في شؤون البشر ومصائر العالم. هكذا، قضى "الإله" نَحبَه كركن أساس للأخلاق تحت طائلة العدمية، لولا إعادة تأسيس القيم البشرية بأيدي البشر وعقولهم وضمائرهم.

أما في بلد وقوده حكايات أحداث ميتة، وما زال شعبه رعايا أرباب لا يتأثرون بعقلانية أو ضمير، بل يحكمون، كل بمُقدَّسه،... فتبدو العدمية شكلاً من أشكال البقاء، تنويعاً من تنويعات المحصلة الصفرية. فلا انتفاضة تنجح، رغم أن ظروفها الموضوعية ما زالت موجودة وتتفاقم. ولا بلد نفطياً، بسبب إسرائيل والمنظومة اللبنانية سويةً، حتى ولو أدى الاستخراج إلى شيء ما بعد سنوات.

آلهة هذا البلد لا تموت، وفي الوقت نفسه لا تحول دون اللا شيء. الأحداث فقط تلفظ أنفاسها من دون أن تركّد دروسها. وإن كانت سياسيات الهوية هي قاتلة التاريخ... فإن التواريخ، تلك الأرقام لأيام وشهور وسنوات، ليست سوى مناسبات قصصية، أعراس ومآتم تقام في البرزخ. 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها