الخميس 2022/10/13

آخر تحديث: 12:04 (بيروت)

رسائل أنطون تشيخوف.. دروس الكتابة والحياة والشك

الخميس 2022/10/13
رسائل أنطون تشيخوف.. دروس الكتابة والحياة والشك
"أكتب وأشعر بشوكة في بلعومي"
increase حجم الخط decrease
مع كل ترجمة لمجموعة جديدة من رسائل أنطون تشيخوف، نزداد قرباً منه كإنسان. تقرّبنا رسائله من عالمه الحقيقي الذي كان وراء إبداعه الفذ، وربما كانت دراسة الرسائل هي الطريقة الأنجع لمن أراد فهم أفكاره وشخصيته. فهو نفسه ينتقد في رسائله، الكتابات التي تبحث رؤاه وتأملاته استناداً إلى أعماله الإبداعية فقط، معتبراً أن تلك الأفكار لا تعود إليه بل إلى شخوص قصصه ومسرحياته.

المشروع الأحدث لترجمة رسائل تشيخوف صدر عن دار "الجمل" بترجمة الراحل خيري الضامن، ويضم ما يقرب من 400 رسالة من أصل حوالى 4400 رسالة كتبها تشيخوف خلال حياته القصيرة –البعض يقول إنها تجاوزت 6500 رسالة- وهي في المجمل "إحدى أكبر المساحات في خريطة أدب المراسلات الروسي والعالمي"، كما يقول الناشر في مقدمته حيث يؤكد أن رسائل تشيخوف ملأت 12 مجلداً من مجموعة مؤلفاته الكاملة التي تقع في 30 مجلداً، وأنها تمثل شكلاً فريداً من السرد الوثائقي المقتضب لمجريات حياته ومسارات إبداعه "إلا أن القيمة المعرفية لتلك الرسائل أكبر من وزنها الشخصي. ففيها نبض الحياة الثقافية والاجتماعية في روسيا أواخر القرن التاسع عشر ومطلع العشرين".

مواضيع الرسائل متشابكة ومتنوعة للغاية؛ من يوميات الترحال إلى مواقيت العمل في كتابة القصص ومراحل تأليف المسرحيات، إلى أحداث الحياة العائلية والارتباطات الفكرية مع أبرز الأدباء والناشرين والمسرحيين، حيث يمكن اعتبار الرسائل سجلاً دقيقاً لكتّاب وشعراء العصر الفضي للأدب الروسي. وذلك لأن تشيخوف كان يراسل عشرات الأدباء الذين كان لهم دور كبير في تطور الحياة الأدبية. لكن الملمح الأهم هو ما يخص مواقفه وتطورات كتابته وشخصيته، رؤيته للمشكلات العامة وأدوار الكتابة ومنغصاتها.

حيرة
تكشف الرسائل كم كان تشيخوف متشككاً في حجم موهبته، خصوصاً في البدايات، وكم كان حائراً بين عشقه للكتابة ودراسته للطب ثم عمله بهذه المهنة في ما بعد، حتى إنه أصدر كتابه الأول باسم مستعار، مبرراً الأمر بأنه سيكرس حياته للطب وأنه سيفارق الأدب عاجلاً أم آجلاً. بل كان يرى إنه لا يجوز أن يجمع اسم واحد بين الطب الذي يصبو إلى الجدية والأدب الذي يميل إلى اللهو! وفي ردّه على رسالة تقريظ من أحد الكتّاب، يكشف أسباب حيرته، فيقول: "ثمة أسباب خارجية كافية للكيان البشري كي يظلم نفسه ويشكك في قابلياته ويرتاب بقدراته... وأنا أتذكر الآن أن لدي القدر الكافي من هذه الأسباب. كل أهلي كانوا دوماً ينظرون بإشفاق إلى نشاطي الأدبي وينصحونني بمودة أن لا أستبدل العمل الحقيقي بتسويد الورق الأبيض. لدي في موسكو مئات المعارف بينهم زهاء عشرين من الكتّاب وأنا لا أتذكر أحداً يعتبرني أو يرى في شخصي فناناً".

تكشف الرسالة نفسها إلى أي حد تأثر بهذا التجاهل، وإلى أي حد وصلت به الحيرة والتشتت بين الطب والكتابة، لكنه لم يعف نفسه من المسؤولية أيضاً: "أعترف أمامكم بخطيئتي الفادحة. كنت حتى الآن أقف من نشاطي الأدبي، للأسف الشديد، موقف المستهتر به غير الحريص عليه أبداً. أنا لا أتذكر قصة واحدة من قصصي أمضيت في كتابتها أكثر من يوم واحد. أما قصة "ناظر الغابة" التي أعجبتكم فقد كتبتها في الحمّام. وكما يفعل المراسلون في كتاباتهم عن الحرائق، ألّفتُ قصصي ميكانيكياً، من دون وعي تقريباً". في تلك الرسالة أيضاً يضيف سبباً آخر لعدم كتابة اسمه الحقيقي على كتابه الأول، فيقول بصراحة أنه لا تعجبه "العصيدة، الخليط غير المنتظم من كتابات طالب نهشتها الرقابة ومحررو الجرائد والمجلات الفكاهية". وتظهر رسائله الممتدة في ما بعد، مقدار معاناته وكتّاب تلك الفترة، من مسألة الرقابة، وكيف كان يتفادى تداخلاتها حتى لو وصل به الأمر إلى عدم النشر من الأساس، ووصف تأثيرها في إحدى رسائله قائلاً: "أكتب وأشعر بشوكة في بلعومي".

أرتُق القفطان البالي
لا يتخلى تشيخوف عن الطب، لكنه يتأكد من أن الكتابة هي موهبته الحقيقية التي لا يجب أن يتخلى عنها أيضاً، وبمرور الوقت ستصبح محور حياته كلها. تواق للكتابة على الدوام: "في ذهني جيش من الأشخاص التواقين إلى الظهور على السطح وينتظرون الإيعاز". ويقول في سياق آخر: "كل ما كتبته حتى الآن تافه بالمقارنة مع ما أطمح إلى كتابته". لكن، ورغم الإنتاج الغزير والتحقق الكبير الذي أحرزه، لم يغادره التشكك في ما يكتب، وظل غير راضٍ عنه في أغلب الأحوال، فهو دائماً مطارد بمواعيد التسليم في الجرائد التي عمل فيها، ومَدِين لا يملك رفاهية المراجعة والتدقيق: "أحب النبش والبحث والاهتمام. لكن ماذا أستطيع أن أفعل؟ أبدأ القصة في 10 سبتمبر على أمل أن أنهيها في 5 أكتوبر، كآخر موعد إلزامي للتسليم. وإذا تأخرت يعنى أنني أخالف، وأبقى بلا نقود". ولا يجد تشيخوف حرجاً من التأكيد على أن هذه الطريقة تؤثر في جودة قصصه ودرجة رضاه عنها، يقول إنه يبدأ بهدوء ثم يتردد في المنتصف كي لا تكون قصته أطول من الحجم المطلوب للجريدة، ارتباك لا يلبث أن يظهر واضحاً في متن القصة "ذلك هو السبب الذي يجعل بدايات قصصي واعدة وكأنني شرعت في تأليف رواية، فيما يأتي المنتصف مبتسراً وخجولاً، بينما تكون الخاتمة مختزلة كالومضة العابرة". ويقسو على نفسه في النهاية: "إنني لا أنتج أدباً، بل أرتق القفطان البالي، أخيطه من هنا فينفتق من هناك".

حتى بعدما نال الإعجاب وانتزع الاعتراف وتوّج بجائزة بوشكين العام 1888، ظل متشككاً: "تصادف لحظات يستولي الإحباط فيها عليّ تماماً. فلمن أكتب ولأي غرض؟ أكتب للجمهور؟ لكنني لا أراه وثقتي فيه أقل من ثقتي في جنّي البيت المسكون". لكن، لحسن الحظ، لم تمنعه الحيرة من الكتابة، ولم يتوقف عن الشعور بأن لديه دائماً أفضل مما كتب: "الحبكات القابعة في تلافيف دماغي تشعر بالحزن والغيرة مما كتبته. ومن المؤسف أن يرى الغث النور، بينما يقبع الثمين في غياهب المستودع كأكداس مطبوعات لا خير فيها"!

تولستوي الأول، وتشيخوف الـ98!
تكشف الرسائل أيضاً عمق التقدير الذي يكنه تشيخوف لمكسيم غوركي، ومن أبرز رسائل الكتاب، نص استقالة تشيخوف من أكاديمية العلوم الروسية تضامناً مع غوركي بعد إلغاء انتخابه عضواً في الأكاديمية. لكن التقدير الأكبر كان لتولستوي، أحبه أكثر من أي شخص آخر، وكان يرى أن في وجوده يسهل على الأديب أن يكون أديباً، ويسرّه أن يكون كذلك، وأنه لا خوف على الأدب في وجود تولستوي لأنه في تقديره ينوب عن الجميع، ففي وجوده "تنسحب الأذواق الضحلة في الأدب، والتفاهات المهترئة والغرور الوقح والحقد المتباكي إلى الخلفية مغمورة في الظل". لذا كان يخشى وفاته، "لو توفي لنشأت في حياتي ثغرة كبيرة". وفي ترتيبه للفن الروسي، وضع تولستوي في المرتبة الأولى، ثم تشايكوفسكي، بينما خصص لنفسه المرتبة الثامنة والتسعين!


(تشيخوف، تولستوي وغوركي)

بعض رسائل تشيخوف نماذج فريدة في النقد الأدبي، يضع فيها خلاصة رؤيته للكتابة ولفن القصة على وجه التحديد. وبينها سطور قصيرة مركزة، يمكن لكل عاشق لفن القصة أن يتخذها منهجاً ودستوراً من أحد عمالقة القصة القصيرة وأبرز من كتبها على الإطلاق. كان يرى أن الفن لا يمكن أن يشيخ أبداً، وأن تلك المقولات التي تزعم أنه دخل منطقة مسدودة تشبه تماماً القول بأن الرغبة في الأكل والشرب باتت عتيقة وانتهى زمنها. ومن أبرز دروسه التي نستخلصها من الرسائل: "احترم نفسك ولا تطلق يديك عندما يكون الدماغ كسولاً خاملاً. لا تكتب أكثر من أقصوصتين في الأسبوع، واختصرهما ونقحهما لتكون لعملك قيمة. لا تبتكر آلاماً لم تعانِ منها ولا ترسم صوراً لم ترها، فالأكاذيب في القصة مملة أكثر مما في الكلام". وقال: "الأدب، مهما كان، لا يستطيع بوقاحته في كل الأحوال أن يتبختر متعالياً على الحياة الواقعية"... "صحيح أن العالم يعج بالسفلة والسافلات والطبيعة البشرية بعيدة من الكمال. لذا، سيكون من الغريب أن نرى الصالحين وحدهم على وجه البسيطة. أما الاعتقاد بأن من واجب الأدب أن ينتشل الحبّة من كومة السفلة، فيعني إنكار الأدب نفسه".... و"مهما حاولنا لن نخترع بوليساً للأدب أفضل من النقد وضمائر الكتّاب أنفسهم"... "قدس أقداسي هو بدن الإنسان، صحته، عقله، مواهبة، إلهامه، وكذلك الحب والحرية المطلقة، بمعنى التحرر من القوة ومن الكذب بأي لبوس يظهران به. ذلك هو المنهاج الذي بودّي أن أتقيد به لو كنت فناناً كبيراً"... "أكتب ما قل ودل. الإيجاز شقيق الموهبة، رديف الإبداع".

مفهوم الدولة
وعلى كثرة ما تحدث تشيخوف في رسائله عن الأدب والمسرح والأحوال المعيشية، كان حذراً في التصريح بموافقه السياسية في الرسائل. كانت الأحاديث السياسية تشعره بالضجر بشكل عام، وربما لم يكن مقتنعاً بوجود حياة سياسية من الأصل، في تلك الفترة التي منع فيها الكلام وطاولت يد الرقابة كل شيء. وقتها قال بوضوح: "ليست لدينا سياسة، ولا حياة عامة أو حلقات فكرية، بل ولا حياة شوارع. وجودنا في المدينة بائس رتيب ثقيل وغير مهم. والكلام عن ذلك ممل... لقد غصنا وغرقنا في حرفتنا، فعزلتنا هذه الحرفة خفية عن العالم الخارجي، وبالنتيجة لم يبق لدينا وقت، وليس لدينا الكثير من المال ولا الكثير من الكتب". وكان تعليقه على الحركة الطلابية وإضراب جامعة بطرسبورغ، لافتاً أيضاً، خصوصا بعد منع النشر في المسألة. يقول في رسالته التي تتناول هذا الأمر: "الحق والعدل للدولة هما الحق والعدل للشخصية المعنوية (للفرد). إذا صادرت الدولة أرضي بالخطأ أتوجه إلى المحكمة، وهي تعيد إليّ حقي. ألا ينبغي أن يحصل الشيء ذاته عندما تلهب الدولة جسدي بالسياط؟ ألا يحق لي في حال وقوع عنف من الدولة أن أصرخ بالويل والثبور لانتهاك حقوقي؟ مفهوم الدولة ينبغي أن يقوم على علاقات حقوقية معينة، وفي حال العكس، تصبح الدولة فزاعة، صوتاً فارغاً مخيفاً".

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها