الإثنين 2022/10/10

آخر تحديث: 14:06 (بيروت)

"رقصة جلال الدين"

الإثنين 2022/10/10
"رقصة جلال الدين"
الشاعر علي الأنباري
increase حجم الخط decrease
تصدر قريباً رواية "رقصة جلال الدين" للروائي العراقي شاكر الأنباري، هنا فصل منها...
ملاحظات:
 - مات بطل هذه الرواية قبل أن تكتمل، وهو أخي الشاعر علي الأنباري
- جلال الدين، هو جلال الدين الرومي، مؤسس رقصة المولوية وفلسفتها في وحدة الوجود الصوفية، ونظرية الدوران، مثل كل شيء في هذا الوجود، ابتداء من الذرة ومكوناتها وحتى المجرات وهي تدور حول ثقب أسود في قلبها.
***

تسلل الضوء من الفجوات بين الستائر الثقيلة المسدلة على النافذة، الضوء البكر، حامل الروح الكونية القادم من المجرات البعيدة. لمحته من بين رموشي المتراقصة الفرحة لقدوم نهار جديد، أتمنى أن لا يكون ثقيلا ثقل جسدي المقعد الممدد على السرير. أنا الشاعر المقعد. الشاعر المحبط. أنا الشاعر اليتيم القتيل الراقد منذ الأزل على خيباتي، وهزائمي، وسنواتي التي نسيت عددها. رأيتهم يرحلون، يغيبون، أصدقائي. وضعت سندس سريري بمواجهة الجدار. لا أرى الشباك إلا مواربة، لم أعد أمتلك الصوت لتنبيهها إلى هذه الخطيئة الكبرى. الجحود والتجديف والكفر الصريح. فظاظة ما بعدها فظاظة أن أحدق في جدار يختفي عن باصري الشاعريتين منابع النور ومباهج الحياة. أريد أن تضع سريري بمواجهة النافذة لأرى الضوء، أريد أن أكتب، أن أدون حكمتي المستخلصة من خمس وستين سنة تنفست فيها الهواء اللذيذ الرائق مثل كأس جعة بارد، ورؤية الشمس وهي تسطع وكأنها ليرة عثمانية تركها السلطان عبد الحميد الثاني لجدي الذي عاش مائة سنة.  أريد التنقل على ساقي الضعيفتين، الشريانين الموصلين إلى أمي الأرض. لقد ابتكرت طريقة جديدة للكتابة، أنا الشاعر الميت جسدا وحسا، طبقا لما أعيشه من موت سريري. كنت معتادا على تناول قلمي وأوراقي لأكتب الشعر أو المقالات والخواطر، ولاحقا امتلكت كومبيوتر تعلمت أسراره وساعدني على التخلص من الورق والأحبار وملفات الحفظ لما كتبته، في هذا الجهاز العجيب يمكن المرء أن يحفظ كل شيء. 

يدي اليوم لا تطاوعني، فهي ملقاة دائما على جانبي. وعضلاتي تحولت إلى خيوط عنكبوتية واهية، ولكن قلبي ما زال يعمل، وذاكرتي أيضا. ومنذ أن انتقلت من المستشفى إلى بيتي ابتكرت طريقة جديدة للكتابة تناسب رقدتي الأخيرة قبل الرحيل. بدأت أدوّن في رأسي كل ما جرى لي بسنواتي العجاف منذ ولادتي وإصابتي بالجدري وكان عمري شهرا فقط، وحتى اللحظة. لحظة تسلل الضوء من الستائر. أيها الضوء الكوني أغثني في تسطير حكمة وجودي، وأنت أيتها الأصوات اهدئي لحظة كي أتوحد مع ذاكرتي. سأكتب، وأكتب حتى أزفر أنفاسي الأخيرة، فليس لي من عمل آخر سوى الكتابة. كرياتي أبجدية، وقلبي مرجل يزن السنين العجاف، وعيناي كلّتا من رؤية المذابح. هي متعة وتسلية وصرف لوقت ثقيل لم يعد يعني شيئا. الممثل في طريقه لمغادرة المنصة. وسيترك صورة غامضة في رؤوس جمهوره الذي غادر هو الآخر، أو في سبيله للرحيل. 

ما زال البيت نائما، ما زالت المدينة نائمة، قتلوا الكلب الشريد، والشرطي المزعج خادم الدولة، وتناهى إلى سمعي هسيس بعيد لسيارة تسير على شارع بعيد وكأنه قادم من حلم سحيق الغور في داخلي. آه يا داخلي. يا مرجلي المجبول من هزائم وخيبات ومذابح وحروب. ثم تناهى إلى سمعي حركة الأفلاك هناك، في الفضاء البعيد. المريخ دار حول الشمس، والأرض تمهلت في سيرها غير عابئة بنا نحن أبناءها المقعدين. أنا الشاعر المحبط. الشاعر الجثة. أنا الشاعر المقعد ابن النخيل، والهزائم، وثمار الخرنوب في الضفاف الرملية والحقول المترامية حول الفرات. أنا ابن حربين وهجرتين واحتلالين، بل ثلاثة، وربما أربعة. تسلل الضوء وتسللت إلى روحي تلك النهارات النائية، والسنين العجاف، والمشاهد المرعبة التي عشتها حين كان لي قدمان أسير بهما، وعينان أرى فيهما ذلك الجمال المحيط بالشباب. وكان لي أذنان التقط منهما موسيقى الوجود البشري المفروض علينا. هجم الصبح هجوم الحرس، يقول الشاعر الأندلسي لسان الدين ابن الخطيب وغنتها له فيروز اللبنانية. سمعتها على ضفاف دجلة في منتجع أبي نواس مع السمك المسقوف، والصحاب الضاحكين على النهر، والبيرة الفريدة، على نسمات هابة من العشب الرطب. 

رأيت الضوء ذاته قبل أيام أو شهور أو سنين، لكنه قدم من نافذة أخرى غير هذه النافذة، أظنها كانت نافذة مستشفى، بل هي نافذة مستشفى كانت تطل على نهر أزرق المسيل، وجزيرة صغيرة سابحة في وسطه تكتظ بشجر الغرب والطرفاء والصفصاف، رأيتها في صباح ما، أو مساء ربما. الخيط بين يدي والغبرة على الطاولة، والنظر كليل. دخل الطبيب ابن خالي بوجهه المورد، وعينيه الملونتين، وسمعتهما يتهامسان. هو وزوجتي. حذر ينط من الكلام وأنا بين يقظة وغفوة أنصت لمصيري. من ذلك الهمس، ومن تلك الالتفاتات المتوترة كخنجر في لحظة اغتيال، التقطت كلمة: ثلاثة، ولم ألتقط غيرها، أنا الخبير باللغة ودهاليزها، ظلالها ورموزها، منذ الصديق الحميم ابن جني وحتى استاذي في اللغة ابراهيم السامرائي. ترى أكانا يتهامسان عن المدة المتبقية لحياتي؟ أكانا يوحيان لي بالقشة التي يفترض بي أن اتمسك بها مثل حلاج يمشي على جسر الرصافة؟ الجلاجل في معصمي والدف فوق الرأس، والرقصة تمتد من هذه الأرض حتى آخر مجرة في كوننا المرصع بالنجوم. ثلاثة أيام، ثلاثة أسابيع، ثلاثة شهور، ثلاث سنين، ثلاثة قرون؟ كلا لا يمكن أن تكون ثلاثة قرون فمن المستحيل أن يعيش ابن آدم ثلاثة قرون. لم يفعلها جدنا جلجامش، ولا نبوخذ نصر، ولا ابراهيم الخليل ابن سومر المتوج بالنبوة. لم يفعلها أحد من أجدادي الذين شربوا ماء الفرات. أبدا، لن أصدق هذه الترهات. ماذا سأفعل في ثلاثة أسابيع؟ أستعيد حياتي المنصرمة التي تمر أمامي مثل شريط سينمائي رأيته في سينما بابل الواقعة في شارع السعدون، وكنت معتادا على رؤية معظم الأفلام التي تعرضها. نعم خلال ثلاثة أسابيع فقط، لكنها لا تكفي لاستعادة حياة شاعر آمن أنه ولد منذ بداية الخليقة. أستطيع أن أؤكد أن الطبيب ابن خالي يقصد ثلاث سنين، وهي فترة طويلة للبقاء في مستشفى يطل على نهر عريض كان مرآه مألوفا لعيني. ثيل، طرفاء، سمك، طين حري، حمير تعبر الساقية، شيص النخيل الذي لم يلقح بالطلع الذكري، خبز محروق كانت أمي تنتشله من التنور، مطحنة ونساء يرتدين العباءات السود، أنا الشاعر سليل القصائد المدروزة بالحزن، والتحدي، والهيام، والغزل. سليل أبي الطيب المتنبي وسعدي يوسف، والبروكار، كلا البروكار قماش دمشقي، كلا، هو البريكان البصري محمود، ثم سلمان رشدي، لكن سلمان رشدي كتب الآيات الشيطانية التي لم أقرأها وأصدر آية الله الخميني فتوى بقتله. كلا، هو بالحقيقة رشدي، رشدي العامل شاعر العمال. غروب شمسي. انفعالات عشق. هواجس ليلية. كلمات. طريق طويل يضيع في سموم الصيف. امرأة وحيدة. كل ذلك يصنع قصيدة. زهرة متفتحة. غصن رطب. ساق داكن اللون. رائحة التويجات النفاذة. أدخلتني في زهرة الرمان ثم مضيت عني، يقول سعدي يوسف، وكل ذلك يكوّن نحلة صفراء طائرة. انتهيت شاعرا داخل جسدي المشلول، في ذلك الأفق المرتسم من نافذة المستشفى يقودنا الطريق نحو المنتجع، أخي جمال يسير بهدوء على الطريق الأسفلتي، على اليمين حقول ذابلة، بستان المشمش والتفاح والتين لونه أصفر، بعد أن هرب الفلاحون أمام هجوم داعش لم يبق في المكان أحد يسقيه، فذبل الشجر وهو يبدو كأنه لوحة مرسومة بالزيت يلتمع وراءها النهر. غوغان، فان كوخ، رافع الناصري، جواد سليم، بل هي جدارية فائق حسن المكتظة بالحمام، والعمال، والنساء، والأحلام، لكن في أرض لا تبيع سوى الحرائق. النهر هو الوحيد الذي لم يتأثر بهجوم أولئك القتلة، فظل الماء يجري نحو الجنوب غير عابئ بالخراب، والدماء، والانفجارات، وبعضها هدم الجسر فقسمه إلى قسمين. غاز الخردل. غاز السارين. اليورانيوم المنضد. شظايا قذيفة هاون. رصد بطائرات بدون طيار. الطائرة الذبابة تطير في السماء كأنها قدر أميركي لا يمكن الهروب منه. ومن قبلها صواريخ أرض أرض، وأغاني ثورية تتغزل برائحة البارود. البارود ليس شعرا. الشعر لا يحمل رائحة البارود. هكذا علمني امرؤ القيس رحمه الله. 

يقول جمال سنرى منتجع صالح النجرس، ولن تصدق عيناك. تندفع السيارة البيك أب نحو المدى البعيد، تتوغل بين القرى المحصورة بين النهر والصحراء، وآثار الدمار نلمحها في البيوت المهدمة، والنخيل المحترق، والسواقي المغلقة بالنباتات البرية، وذلك الفراغ الرهيب حيث لا نلمح إلا بشرا معدودين يتجولون مثلنا متفقدين آثارهم، آثار الملتحين القساة، قدموا من دهاليز الدين البعيدة ومن بلدان لم نسمع بها. وكأنني أسمع صوت المواجهات بينهم وبين الجيش الأميركي والصحوات، والمتطوعين القادمين من الجنوب. كانوا عتاة بلحاهم، وبنادقهم، وزهدهم بحياة النبات والحيوان والبشر، كما لو كانوا وباء هبط من السماء لتخريب حياتنا وإرسالها إلى الموت. إلى اليمين النهر بمياهه الأزلية قارب الصفاء بعد شهور الشتاء، تحوم فوقه حشرات طائرة تكوّن جيوشا حرة صغيرة تعبر نحو الضفة الثانية أو ترسو على ضفتنا نحن. باحثة ترسو عن طعام في الورق الجاف، وبقايا الطين، وجثث الحيوانات الميتة دون سبب واضح.
 النهر مانح السمك والمتعة، قضيت طفولتي بين يديه الباردتين. النهر الذي تجلى لي من نافذة المستشفى حين قال الطبيب لزوجتي أنني لن أعيش أكثر من ثلاث سنين، أو أسابيع أو أيام.

كانت مضافة صالح النجرس تجلب الحقد إلى نفوسهم، يقول أخي جمال وهو يمتص سيجارته الرفيعة من نوع بن، ووجهه الحنطي يتلون بالألم والحقد الدفين على الملتحين الذين كانوا سببا في تركنا للبيوت والمدينة لمدة سنتين. الشائعات حول المضافة كانت وعلى مدار سنوات تنتشر بين العامة، ينشرها أشخاص غير معروفين. أشاد صالح تلك المملكة بعد سنتين فقط من دخول الأميركان إلى هذه الأصقاع. همرات، دبابات، مروحيات مصفحة بالحديد، مناطيد مربوطة فوق الجسور، جنود سود وشقر ومن جنوب شرق آسيا، ومن أعجوبة البناء أن صالح أشاد على كتف النهر استراحة ذات سقوف حمراء من الآجر، وشبابيك عريضة تشرف على مويجات الماء، وأبواب من الخشب، وسوّر المضافة بسور من الطابوق الأصفر يمتد من كتف طريقنا هذا حتى ضفاف النهر، وفي زوايا البناء أكواخ صغيرة تشبه المراقب أو الاستراحات قيل أنها لضيوفه القادمين من بغداد: شيوخ عشائر وجنرالات أميركيون ومقاولون أجانب ومتعاقدون من جنسيات مختلفة. وفي الليل نسمع أصوات الغناء والموسيقى، وهم يحتفلون بوصول راقصة من بغداد تتلوى على ضفة الطرفاء والعاقول غير المنضد، يا إلهي كما كنا سذجا في تلك الأيام، نتجمع عند حافة المبزل لنرى طلائع القوات الأميركية تتقدم على الخط السريع الرابط بين بغداد والرطبة.

 السيارة تقترب من المنتجع فنراه مهدما ويبدو أنهم فجروه بعبوات ناسفة وذلك لإزالة الرجس من الأرض. نترجل عند الطريق المترب المخرب الذي يقود إلى المنتجع. ندخل البوابة التي كانت من المرمر ونمشي باتجاه النهر حيث السياج الخفيض الذي تهدم وظلت ألواح من المرمر الرمادي تشع في شمس العصر. في السياج فتحة عريضة تقود إلى درج ينزل نحو مرفأ خشبي صغير. لكن لم يعد هناك ذلك المركب الصغير العصري ذي المحرك المثبت في مؤخرته، لا يمكننا رؤية الدرج فقد نمت الحشائش عليه وغطته، وكأن هذه الأرض تنتقم مما هو جميل وجديد. يقف جمال في الفتحة محدقا بحزن إلى الضفاف المقابلة، هناك حيث نخيل لم يعد أحد يهتم بتلقيحه، ورعايته. التمر يختفي من حياتنا. الفاختات تختفي من الأرض روّعتها بلا شك تلك الأحداث الرهيبة التي جرت في هذه الأصقاع. جمال يبكي خفية. هو أيضا يبكي على حياته المدمرة مثل منتجع صالح. نمضي بين نباتات الحلفاء نحو الاستراحة الصغيرة المطلة على المياه، وقد رفعت من مساحتها الطاولات والكراسي، صممها صالح على شكل دائرة تكاد تسبح على حقل السمك في الأسفل. أنا سمكة، جمال بطة برية تكاد تطير، سورات الماء ترقص تحت الأشعة، ورغم أننا حزانا لكن الحياة تستمر، قبل عشرات السنين سبحنا في هذا المكان، وبعد سنتين سيموت جمال بوباء الكورونا ودفناه في المقبرة. لكنه شبع فرحا قبل موته وقد رأى هزيمة هؤلاء الوحوش أبناء تورا بورا، ووادي بانشير، وصحاري الجزيرة السورية، وكهوف قره تبة، ودهاليز جبال حمرين، وهناك لا تزال الاستراحة المطلة على الماء مدورة بسقفها الأحمر وشبابيكها الواسعة. وقيل أن شلة صالح كانت تجلس هنا تحتسي الويسكي وتدخن الأركيلة وتستمع إلى أصوات المطربات القادمات من بغداد. 

كانت أصوات يوسف عمر، وحمدية صالح، وسعدي الحلي، وزهور حسين، تلعلع فوق أشجار اليوكالبتوس المزروعة في جوار المنتجع، وتقف الضفادع عند الحافة وهي تتطلع بعيونها المدورة إلى هذه الايقاعات الغريبة، وتسكت صراصير الزرع تحت شجر العاقول، وتتوارى الثعالب البرية في عتمة السواقي أو تهرب نحو بداية الصحراء التي لا تبعد سوى خمسة كيلومترات عن الاستراحة، وعن أطراف القرى الفراتية. البيت الرئيسي منهوب الشبابيك متداع الجدران بعد أن وضعوا عبوة ناسفة تزن طنا في أساساته وسمع دوي الانفجار حتى منطقة أبي غريب، وتصاعدت غيمة الدخان والتراب حتى غلاف الأوزون، وكادت أن تبلغ القمر حسب مبالغات أخي جمال الواقف حزينا وهو يتجول في الاستراحة.

 المراقب، والبيت الكبير، والطابوق الأصفر، ورائحة المازة المتناثرة بين نباتات الحلفاء والنفل والخباز ذي الأوراق الخضر الداكنة التي تقترب من اللون الأزرق. أمي عادة ما تتجول في الحقول كي تلتقط الخباز للعشاء، تفرم بسكين حادة وتنظفه بمياه الساقية المصفاة بالزير المركون في زاوية الحوش تحت شجرة التوت، ثم تقليه بالدهن الحر وتثرم البصل معه وتقدمه بعد نصف ساعة وجبة لذيذة مع الخبز الحار الخارج توا من التنور المركون تحت شجر الخروع خارج الدار. ثم أسأل جمال إن كان سمع بـ"نظرية الترس" فيتعجب من هذه النظرية التي لم يقلها آينشتاين أو فرويد أو أحمد زويل المصري، فأشرح له أنها نظرية جاء بها السرسري أبو مصعب الزرقاوي بعد احتلال الأميركان للعراق، وكان يقود الجهاد من مخابئه في ديالى، والرمادي، وتكريت. وملخصها أنه يحق للمجاهد استهداف القوافل الأميركية والجنود حتى إن تسبب الهجوم بقتل الأبرياء، وكان أن تقدم المهاجم الملغم الجسد نحو سيارة أميركية تقف في واحدة من ساحات "بغداد الجديدة" توزع الهدايا على مجموعة أطفال، وهو أسلوب شاع بين الأميركيين في بغداد والمحافظات لجلب الرضا عنهم وبيان اهتمامهم بالأطفال العراقيين، ثم تقدم المهاجم القادم من تونس كما قيل، وقيل من الشيشان، واختلط بين الأطفال، وحين اقترب من ثلة الجنود المعتمرين لتجهيزاتهم العسكرية المرعبة سحب خيط التفجير وتبخر في الفضاء الشتوي، لشتاء بائس من العام ألفين وأربعة. 

أكثر من عشرين طفلا تبخروا في الفضاء، هم وأقلامهم وشهواتهم للفطائر المحلاة بالمربى وحقائبهم المشتراة من سوق الشورجة. وثبتت نظرية الترس طريقة صحيحة للجهاد، وسبيلا للارتقاء إلى جنة الخلد. ومعاقرة الحوريات وتذوق الثريد مع النبي، وسماع موسيقى الوجود بعيدا عن هذه الأرض المحتلة من الكفار. فقد قتل مع الأطفال جنديان أميركيان، واستخدمت الطريقة ذاتها في منطقة علاوي الحلة البغدادية، وفي وسط مدينة الحلة، وعلى تخوم بغداد بما يعرف بمنطقة المعالف المكتظة بالكادحين من الناس. تلك هي نظرية الترس المستوحاة من فتاوى ابن تيمية، ومن بعض الآيات القرآنية، ومن تعاليم ابن لادن المقيم في جبال أفغانستان قبل قتله. جمال ينظر لي بغرابة ونحن نودع المنتجع لنمضي إلى القرية التي لا تبعد سوى خمسة كيلومترات وما زالت آثار هجوم داعش واحتلالها بارزة على بعض بيوتها وبساتينها الذابلة. أخي جمال لا يدرك خطورة هذه النظرية المجلوبة من تفسيرات رمزية ملتوية للقرآن، ومن نصوص تراثية لفقهاء مر على موتهم أكثر من ألف سنة تغيرت خلال ذلك الحياة ببشرها، ومدنها، وقوانينها، وخرائطها. جمال خريج معهد الزراعة لذلك لا يفهم بالأمور الفقهية، بينما درست أنا اللغة العربية في جامعة بغداد وأستطيع لمس الكلمات وتأويلها واقتناص المعاني الكامنة وراء الجمل وما ترمي إليه الأفكار. 

طارت الذبابة فوق وجهي لا أستطيع نشها أو قتلها رغم أنني لا أرغب في قتل حتى الذبابة. أنا مسالم، شاعر كره ما رآه في هذه الأعوام الطويلة المسماة عمر الانسان. وبعد أن تسلل الضوء من الستائر تناهى إلى سمعي صوت خطوات زاحفة من خلف الباب، لقد ارتفعت الشمس بلا شك فوق المدينة وفوق زقاقنا، خطوات حذرة، سمعتها اتجهت إلى الحديقة الصغيرة، حديقة البيت. هل هي خطوات الموت؟ الموت يهجم، الموت بمنجله يتجول في الحديقة، لقد ورثت جسدا مشلولا لكن روحي لا تموت، سأواجهك أيها الموت بالكلمات، بالخيال، بالشعر، بالوفرة الذهنية التي تتملكني في ما تبقى لي من زفرات الأوكسجين. وكان الشبح المرعب ينتصب جنب سريري. واقفا فوق رأسي تحيط به هالة مظلمة، حجب عن عيني الضوء المنسل من الستائر، وقفة ثابتة، شجاعة، لا يمتلكها سوى ملك الموت، بوجه عريض سمين، تنتأ على صفحته خيوط سميكة تكاد تشبه حبات الكريستال، بشعر كث أسود ينتهي بلمعات ذهبية، والعينان لا تبينان من الشعر المنسدل إلى الأمام، لكنه لم يمد إلى جسدي منجله، ولا حربته، ولا سيفه ليلتقط روحي من هذا الجسد العاطل، الميت، وإذا به يسألني فجأة: الفطور، عليك أن تأكل. 

إذن هو ليس عزرائيل، بعد ومضة من الوعي تبينت أنها زوجتي، ولكوني أسبح في عتمة الزاوية التي ركم فيها سريري مضت سندس وأزاحت الستائر فتدفق الضوء إلى الصالون، هجم علي كما يقول ابن الخطيب هجوم الحرس، ليتني سافرت إلى الأندلس لأرى جوامع أجدادنا وحدائقهم وبقايا قلاعهم، هي التي أصبحت قبلة للسياح. ولكن عمري تاه في صحاري الحروب والمعسكرات والليالي المظلمة وغزوات المجاهدين وقعقعة السلاح، هجم الضوء وكشف ما يحتويه الصالون، حتى من دون أن أدير رأسي، أنا لا أستطيع أن أدير رأسي، نال العطب من أعصاب جسدي وعضلاته ومفاصله، وتحولت إلى ذاكرة فقط، إلى خلايا عصبية متوهجة لها نشاط واحد هو اشعال النار بتلك المنطقة المسماة ذاكرة. 
والذاكرة كلمة ضخمة، أضخم من الأرض. تكونت من ذرات كونية سافرت مليارات السنين الضوئية كي تؤسس عقولنا الهشة الناعمة. لذلك أستطيع أن أقول في المحصلة إن عمري يبلغ مليارات السنين. فكيف تخترق أسرار مليارات من النجوم، والمجرات، والأشعة البراقة، والثقوب السوداء؟ أعجوبة، أليس كذلك؟
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها