السبت 2022/10/01

آخر تحديث: 13:22 (بيروت)

"شقراء" أندرو دومينيك.. وحوش مارلين مونرو وخيباتها

السبت 2022/10/01
increase حجم الخط decrease
هناك نوعان من الأفلام المصحوبة بالضجيج والأزيز في المهرجانات السينمائية الكبرى. الأول يمكن وصفه، كما يقول الأميركيون بطريقتهم الودّية، بأن "الترحيب به يطول ويفيض". الضجّة المبكرة المرافقة له، تحرّره من طاقاته السلبية ونواقصه الفنية، كما هو الحال، مثلاً، مع "جوكر" تود فيليبس، الحائز على جائزة الأسد الذهبي لمهرجان فينيسيا قبل ثلاث سنوات.

ثم هناك أفلام مثل "شقراء" لأندرو دومينيك، الذي طال انتظاره وهو، عن سيرة مارلين مونرو، والمقتبس من أحد أكثر الكتب مبيعاً لجويس كارول أوتس، وكان مركز الكثير من الشائعات طوال العامين الماضيين، لدرجة أن الفيلم -حين عرضه ومشاهدته- لا يمكن إلا أن يخيّب الآمال حقاً.

"شقراء" أول إنتاجات "نتفليكس" الأصلية الذي يحصل على تصنيف NC-17، أي أنه ممنوع لمَن هم دون 18 عاماً من العمر، ورافقته مشاكل بسبب بعض المشاهد الجنسية الجريئة، وتأجّل إصداره مرات عديدة. الآن، يصل الفيلم إلى منصة "نتفليكس"، بعد أقل من شهر على عرضه العالمي الأول في مهرجان فينيسيا.

ينابيع الأسطورة والشقاء
عندما نشرت أوتس روايتها "شقراء" في العام 2000، وصفتْ مقاربتها لحياة مارلين مونرو في المقدمة بأنها "متزامنة". قالت إن مونرو عرفت العظام العارية للحقائق، والعديد من دور الرعاية، والتجارب المسيئة، والعشَّاق، والسلوكيات المُهلِكة والأزمات. وقالت إنها استعانت أيضًا بمذكّرات مونرو. ورغم هذا وذاك، قالت أيضاً إن كتابها "لا ينبغي بأي حال من الأحوال أن يؤخذ باعتباره وثيقة أو شهادة موثّقة".

وبالتالي، فإن الفيلم الذي أخرجه (وكتبه للشاشة أيضاً) أندرو دومينيك، ليس سيرة ذاتية. هو بالأحرى فيلم رعب، بطلته "فتاة أخيرة"، تلك الشخصية الأنثوية النموذجية من النوع الذي يتسجلب الوحش (أو الوحوش)، لكنها لا تنجو في النهاية، للأسف. تظهر الوحوش التي يتعيّن على مارلين مواجهتها في الفيلم، في وقتٍ مبكر، من خلال إظهار علاقتها بوالدتها غلاديس (تؤدي دورها العظيمة جوليان نيكولسون)، والمطبوعة بمرضٍ عقلي، لتنتهي بشكل شبه قاتل بالنسبة للشابة نورما جين، كما كانت تسمّى مارلين قبل شهرتها وتحوّلها إلى تلك الأيقونة الجنسية الهوليوودية.

بعد حريق -ربما "حريق غريفيث بارك" في العام 1933- تتصرّف خلاله غلاديس بشكل غير مسؤول، تبدأ رحلة نورما في البحث عن شخصّ يحبّها حقاً. هذه الرغبة البسيطة والضرورية في إيجاد الحبّ والتقدير، والتي ركّبها عليها بيلي وايلدر لاحقاً باعتبارها دليلاً على نهمها الجنسي في الأغنية الشهيرة "I Wanna Be Loved By You"؛ ظلت رفيقة مونرو طوال حياتها القصيرة.

مراراً وتكراراً، يلعب دومينيك اللعبة التقليدية في تظهير ما لا يُمكن التيّقن بشأنه، عبر إنجاز مشاهد مؤكّدة لاستبطانه وقراءته للحياة الداخلية لبطلته. مثلاً، في اختبار أداء لأول دور بطولة حقيقي لها في فيلم الـnoire-النفسي "لا تهتم بالطَرْق" (1952، روي وارد بيكر)، حيث تلعب دور جليسة أطفال غير مستقرة عقلياً، تجلس مارلين (آنا دي أرماس) مقابل ثلاثة رجال؛ وفي المشهد بالأبيض والأسود، يتوهّج شعرها اللامع. كما لو أنها في حجرة مرايا، أو كأنما المشهد خارج من آخر يشبهه في فيلم "مولهلاند درايف" (2001، ديفيد لينش)، فتنعكس حسّية الممثلة الشابّة في نظرات ورغبات مفترسيها الذكور الأكبر سنّاً.

بعد أدائها الدور بصورة رائعة، تغادر الاستوديو، ويبقى الحضور الذكور. "سيىء جداً. هذا ليس تمثيلاً، هذا مَرَض"، يقول مَن شاركها الاختبار. بينما يقول السيناريست منزعجاً إن "الممثلين الحقيقيين يمكنهم التمييز بين أنفسهم وبين أدوارهم". في هذه الأثناء، يقف المخرج بجانب باب الاستوديو، مدخّناً وساعلاً، يراقب مارلين أثناء عبورها في سروالها القماشي المحبوك، فتخرج من فمه كلمات الإعجاب الفاحش: "يا يسوع الحلو، انظر إلى مؤخرة هذه الفتاة الصغيرة". وبالطبع، كما يمكننا أن نتوقع، تحصل مارلين على الدور.


هشاشة واستغلال
يُظهر الفيلم مارلين في حالة من عدم اليقين، دائماً مهتزة تميد الأرض تحتها. مع زيادة تعاطيها المخدرات واختفاء شخصية نورما جين خلف "بيرسونا" طاغية لمارلين مونرو، وصور، وطبقات، وكاميرات؛ تتناوب المشاهد بالأبيض والأسود والألوان، تماماً كما الرجال في حياة مارلين.

مع تشارلي شابلن الصغير (كزافييه صموئيل) وإدوارد ج.روبنسون الصغير (إيفان ويليامز)، امتلكت مارلين مثلث حبّ يتراوح بين الانفتاح والاستغلال، فيما زوجها لاعب البيسبول السابق جو ديماجيو (رجل غيور وعنيف للغاية، يجسّده وبي كانافال) يعاقبها على فتح فخذيها (ممتلكاته المفترضة) للجمهور في فيلم "حَكّة السنة السابعة". بينما يتركها زوجها التالي، الكاتب المسرحي آرثر ميلر (أدريان برودي)، بعد إجهاضها.

يعيد الفيلم بناء تجربتي زواجها، بالإضافة إلى مسيرتها الفنية، مع التركيز على عملها مع المخرج بيلي وايلدر في فيلمي "حكّة السنة السابعة" (1955) و"البعض يفضّلها ساخنة" (1959)، أو فيلم هوارد هوكس "الرجال يفضّلون الشقراوات" (1953) الذي تقاضت عنه 5 آلاف دولار فقط، في مقابل 100 ألف تقاضتها جين راسل، زميلتها في البطولة.

في مشهدٍ مزعج، تدخل مارلين غرفة جون كينيدي في أحد الفنادق، لتستمني الرئيس الأميركي (كاسبار فيليبسون)، المستلقي على سريره كإله ريفي بُسمرة شمس البحر، ثم تكمل مهمتها بلسانها أثناء استقباله مكالمة هاتفية. يُسمع صوت عقل مارلين: "فقط لا تختنقي". يمكن للمرء إساءة تفسير التصوير الفكاهي والقاسي للأدوار الجندرية في ذلك الوقت باعتباره "ضَحْينة"، لكن ذلك الزمن لم يكن لطيفاً مع الليّنين والهشّين، وبالتأكيد مع النساء.

في الناحية البصرية، ينتقل دومينيك، ومدير تصويره تشايس إرفين، من إطار شبه مربّع إلى شاشة عريضة للغاية، من الأسود والأبيض إلى الألوان، ومن الواقعية الخالصة إلى الصور المشوهة والكابوسية والمهلوسة. وفي ما يتعلّق بطريقة تقديم المَشاهد، يصنع العجائب في بعض المَشاهد الجماعية، ويقع في مآزق مربكة ومزعجة في مقاطع أخرى (الطريقة التي يصوّر بها عملية الإجهاض أو مشهد الجنس الفموي مع جون كينيدي).

يُظهر الفيلم، وهو أمثولة مؤلمة وقذرة ومفجعة، أكثر امرأة مرغوبة في العالم، وهي تتعرض للإذلال والإهانة والاستغلال في عالم ذكوري ومحافظ. امرأة شابة واعدة وقعت ضحية لعنة غريبة تسلّطت عليها وأفضت بها إلى مصير مأسوي. ديفا متوَّجة، في خضم معاناتها الدائمة لأزمة عميقة تخصّ احترامها لذاتها ووعيها بهويتها، كانت تصادف بوستراتها العملاقة تحتل طوابق عديدة. يرسم الفيلم وقائع صعود وانهيار الشقراء (المزيّفة) التي زيّفت -كما لم تفعل إلا قلّة- الضحكة البريئة والشهوانية، "الدمية" الفوتوجينيك، والقنبلة والرمز الجنسي.. التي كانت ضحية قبل أن تصير نجمة، إلى أن أصبحت في النهاية إحدى أهم أساطير الثقافة الشعبية.

ضحية منذ البداية
يبدأ الأمر فعلياً في الجحيم: بحر من النيران في التلال فوق لوس أنجليس، حيث تتسابق نورما جين، ابنة السبع سنوات مع والدتها، في طريقها إلى والدها، وهو اسم كبير في هوليوود يجب أن تظل هويته سرّية. وينتهي كذلك في جحيم استعاري: داخل غرفة نوم الرئيس الأميركي، حيث تقوم مارلين بما يمكن رؤيته في آلاف المقاطع الإباحية الرائجة.

مارلين مونرو دائماً ضحية في الفيلم: أب غائب، وأمّ غير صالحة كان عليها أن تلتزم بقسم الأمراض العصبية والنفسية، وسلسلة مؤسفة من سوء المعاملة طاردتها طوال حياتها القصيرة (ماتت عن عمر يناهز 36 عاماً). تُستغَل من قِبل والدتها، وتُساء معاملتها من قِبل رجال تناديهم "دادي". فقط تعترض على المخرج أثناء تصوير فيلم "البعض يفضلها ساخنة"، وتغادر الموقع غاضبة. بعد العرض الأول لفيلم "الرجال يفضّلون الشقراوات"، تعتذر لطفلها المجهَض متسائلة: "أمن أجل هذا تخلّيت عنك؟"..

يتضمن الرعب (الجسدي) للفيلم أيضاً حواراً قصيراً بين مارلين وطفلها الذي لم يُولَد أبداً، وفيه يطلب منها بصوتٍ مخيف ألا تقتله "مرة أخرى"، وهو مشهد أثار غضب نشطاء حقوق الإجهاض في الولايات المتحدة. لا يبغي دومينيك اتخاذ موقف ضد الشعار النسوي "جسدي خياري". على العكس من ذلك، هو يُظهر ما يحدث عندما لا تملك المرأة خيار اتخاذ القرار بشأن جسدها. لكن هذه إحدى الحالات النادرة التي من الممكن فيها إنصاف الفيلم وخطابه. فضلاً عن أن مثل هذه الإيماءات النسوية ما زالت بشكل واضح نتاج حقبة ما قبل "أنا أيضاً"، حتى في تفسير دومينيك.

جرأة واستفزاز
"شقراء" يولّد حيرة وتناقضاً خالصين: مبهر ورائع في بعض الأحيان، ومبتذل وأخرق في البعض الآخر، متقلّب ولعوب بقدر جرأته واستفزازيته. المؤكد أن دومينيك لم يصنع فيلماً ليحبّه كل المشاهدين. لكنه أيضاً، بعد مرور ستين عاماً على وفاة مونرو، لم يسلّط فيلمه أي ضوء جديد على قصة الحياة المأساوية لأشهر نجمة مرّت على هوليوود.


يراهن دومينيك على الزيادات في جميع المجالات: من الطول (166 دقيقة) إلى وفرة العري واللقاءات الجنسية، بما في ذلك مشاهد التعاطي أو الكحول، والتعرض الصريح للجنون والانتهاكات بأنواعها. في مركز كل هذا الإفراط، تقدّم الكوبية آنا دي أرماس، التي تحمل ثقل الفيلم من خلال تواجدها في كل لقطة تقريباً، أداءً انتحارياً، جولة تمثيلية جبّارة يتعيّن عليها فيها ترجمة الضعف والألم والصدمة والجنون، والانفصال المستمر والانقسام بين فنّانة فاتنة يحتفي بها الجميع في ظهورها العلني، وامرأة قلقة تفتقر إلى الأمان والطمأنينة وغالباً ما يُساء فهمها ومعاملتها في علاقاتها الحميمة. نادراً ما رأينا ممثلة تبكي لفترة طويلة وبهذه القوة على الشاشة.

بمساعدة أقراص الدواء والمكياج، وعبر صراخ المعجبين، تتحرّك آنا دي أرماس بتخلٍّ، كما لو إنها زاهدة لا رغبة لديها في كل هذا الألق. صوتها اللطيف ينكسر، حركاتها الشاردة والشاذة، والتي -لأن هذا ما كانت عليه الحال مع مارلين- لا تفقد طلاوتها أبداً؛ تؤكّد ضعفها.

موسيقى الفيلم، يغلب عليها البيانو في بعض الأحيان، وأحياناً تغدو نغمات موالفة كثيفة، من تأليف الثنائي نِك كيف ووارن إليس (وكلاهما أنجز المخرج فيلماً وثائقياً عنهما). وكما يفعل الأول في كثير من أعماله، تقترب الموسيقى من حافة الكيتش الفني، لكن بصمة مؤلفها ترتقي بها إلى ما هو أبعد. كذلك بالنسبة إلى الإنتاج والديكورات التي تجلب تفاصيل زمن ومواقع أحداث الفيلم إلى الشاشة بصورة مذهلة ودقيقة.

غير أن "شقراء"، الذي شارك في إنتاجه براد بيت، بين آخرين، مثال واضح على النهج النتفليكسي: يتظاهر بأنه سيستبطن ويسبر أغوار حياة مارلين مونرو، لكنه، في حقيقة الأمر، يبدو تخمينياً ومضارباً في هذا الصدد، حتى إنه في بعض الأحيان يكاد يبدو مبتهجاً بتدمير الذات بدلاً من شرحها أو تفسير منابعها. وهكذا، يفعل ببطلته كل ما يُفترض حمايتها منه. ثم إن دومينيك يقوم بكل شيء عبر إطلاق زئير مشؤوم لمدة ساعتين وربع الساعة، من الناحية الجمالية والدرامية والموسيقية. حقيقة أن آنا دي أرماس (كوبية المولد والنشأة) قادرة على تقديم حضور شبيه بمونرو في خضم هذا كله (وبالتأكيد ستنال نصيبها من إيماءات التقدير في موسم الجوائز على هذا الدور)، لا تساعد كثيراً في الركام الأخلاقي والسردي الذي يغوض فيه الفيلم.

ختاماً، هناك أغنية شهيرة لشقراء هوليوودية أخرى، أقل شهرة للأسف، هي مارلين ديتريش، تقول: "احذر النساء الشقراوات الرائعات". لكن هذا لا يناسب مارلين مونرو، ففي حالتها يبدو الأمر معكوساً: كان الأَولى بها هي الحذر والانتباه لنفسها.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها