السبت 2022/10/01

آخر تحديث: 13:22 (بيروت)

سهيل سامي نادر.. المتوّج بسوء الحظ

السبت 2022/10/01
سهيل سامي نادر.. المتوّج بسوء الحظ
ذكرياته تشكل أرشيف الأعوام الخمسين الماضية من تاريخ العراق
increase حجم الخط decrease
كتب سهيل سامي نادر، وهو شخصية إعلامية وثقافية لها باع مديد في النقد التشكيلي، مذكراته الشيقة، "سوء حظ"، بعدما ظل الحظ هذا يلاحقه منذ أن تورط في مهنة الصحافة قبل حوالى خمسين سنة. كتبها في سن السابعة والسبعين، بعد وصوله إلى الدنمارك لاجئاً قبل عشر سنوات، وقد أغلقت طرق العيش أمامه، سواء في بغداد، أو عمّان، أو دمشق. وسوء الحظ، كما رأيناه في تلك السيرة، نتج عن شخصية الكاتب ذاته، فهو شخصية حالمة، متمرّدة على الواقع، تبحث عن يوتوبياها الخاصة في الظروف كافة. لا تهادن، صادقة مع ذاتها، وتحاول وضع بصمتها الخاصة على الحيز الصحافي والثقافي الذي تمارسه. الأمر الذي لا يمكن الوصول إليه في بيئة موبوءة كالبيئة العراقية.

وتأتي أهمية المذكرات لرصدها فترة طويلة من حياة البلد الصحافية، والفنية. تبدأ من الستينيات وتمتد حتى هجرته النهائية إلى البلد الإسكندنافي البارد في عمر سبعين عاماً، مر عليه خلالها عدد من الرؤساء وهو في مهنته المتقلبة المتوترة. عبد الرحمن عارف، وأحمد حسن البكر، وصدام حسين، والرؤساء المتعاقبون الذين تُوّجوا بعد البركان الأميركي حسب منطق المحاصصة المعروف. في غالبية العهود التي عاشها سهيل محرراً، أو صحافياً، أو سكرتير تحرير، في مجلات وصحف ومكاتب إعلامية، كان دائماً سيء الحظ، لعدم تلاؤمه مع المحيط الذي يعمل فيه، الصحافي خاصة، إلا أنه يبدع ويجد ذاته المثقفة الهائمة في جماليات الحياة حين ينعرج إلى الأدب، والفن التشكيلي تحديداً. فهو من عشاقه أولاً، ومن نقاده الممتلكين لرؤية نافذة لتفاصيل العمل التشكيلي ثانياً، سواء كان رسماً، أو نحتاً، أو عمارة. ومقارباته لفن جواد سليم وشاكر حسن آل سعيد ورافع الناصري، والتشكيل العراقي عامة، تركت بصمة لدى المهتمين بالتشكيل، والعمارة، والتصاميم، منذ جيل الرواد في منتصف القرن العشرين.

في الكتاب، يروي سهيل سامي نادر، تجاربه الشخصية في العمل الصحافي، ما يعطي المذكرات مصداقية استثنائية، وجاذبية لمتابعة القراءة. فينقلنا نحو جريدة "الثورة"، قبل سيطرة المكتب البعثي عليها، ثم مجلة الإذاعة والتلفزيون، ومجلة ألف باء، وفنون، وله في كل مكان قصة وخبر.

وكان آخر تجاربه عمله في جريدة "المدى"، وقد شارك فيها منذ تأسيسها نهاية 2003، وعاصر تحولاتها التحريرية، ومثقفيها وإدارييها، واتساعها الوظيفي والفني، لتصبح مؤسسة لطباعة الكتب، ووكالة أنباء، وتلفزيون، ومؤسسة إعلانات، حيث استمر عمله فيها سواء كصحافي، أو قارئ مخطوطات، أو محرر في سورية والأردن، حتى انتهاء عمله تماماً، ورحيله إلى المنفى.

وقد عنون الفصول بعتبات، هي في الواقع نقلات مفصلية في حياته، وحياة البيئة الاعلامية والسياسية العراقية. ولأنه أنجز الكتاب، وهو يقترب من الثمانين، جاءت المذكرات خبرة مكثفة وجريئة لحياة انسانية وثقافية. أما كَون الذكريات تشترك مع أشخاص كثيرين من الرسامين والمثقفين والسياسيين والصحف، فذلك ما يجعل الكتاب أيضاً أرشيف لتلك الحقبة، حقبة الأعوام الخمسين المنصرمة من دون أسف. تلك الصحف، والمجلات، والمكاتب، والمؤسسات، لها ارتباط كبير بالسياسة العراقية بكل تعرجاتها، وبكل مراحلها. وتنعكس تلك التحولات في العمل الصحافي والثقافي والاجتماعي، وهو ما رصده سهيل بكل دقة. حاول تفسير تلك التحولات والاهتزازات على ضوء الأهواء الشخصية، والمصالح، والعنف، والقمع، والميول الطائفية، والإغراءات الوظيفية، والتصفيات الجسدية. كلها فعلت فعلها، وتركت بصماتها في واقع الصحافة العراقية طوال العقود الخمسة.

تجاربه تلك كشفت حقيقة فاقعة لمسها كل شخص كرس نفسه لهذا الحيز، ألا وهي العلاقة الحميمة، والقاتلة أحياناً، بين الاعلام والسلطات المتعاقبة. والصحافة عادة ما تكون هي المنفعلة بسياسة البلد، وآيديولوجياتها، والعكس ليس صحيحاً، ونادراً ما صحّت مقولة السلطة الرابعة في العقود العراقية الأخيرة. غنى هذه المذكرات نتج كذلك من تزاحم وتراكم شخوصها وأحداثها ومفارقاتها، ورواية الأحداث الشخصية كخبرة، وتجربة، رافقها تحليل سياسي وفكري وحتى جمالي، ما جعل من المذكرات لوحة معرفية ترسم بوضوح ما عاشه العراق الحديث بعد العهد الملوكي.. لا في السياسة وحدها إنما في الفن، والعمارة، والنقد، والتحولات الاجتماعية، والظواهر المرافقة لها على صعيد الآيديولوجيات الشيوعية، والقومية، والإسلاموية الطائفية الحاملة لمعول الدين الممذهب لهدم الهوية العراقية المتعارف عليها.

وجاءت خبرته التشكيلية وثقافته العامة، أدبياً وفكرياً، لتضفي على سرد المذكرات طلاوة وتزويقاً جاذباً للذهن، وجُملاً غير تقليدية تستفز القارئ وتجعله يتوقف للتأمل في ما يكمن وراء الجُمل المستفزة أو المفاجئة وغير المتوقعة. لذلك كله، تبرز في الكتاب لمسة شعرية تسمو باليومي، والمعروف، والعابر، جاعلة منه أدباً محلقاً بالخيال تارة، وباعثاً على الابتسام تارة أخرى.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها