السبت 2022/10/01

آخر تحديث: 13:22 (بيروت)

"أرض صامتة": حين يظهر العربي في فيلم بولندي

السبت 2022/10/01
"أرض صامتة": حين يظهر العربي في فيلم بولندي
مع حسن النوايا، تم تقديم الآخر، العربي، مجرّداً من فرديته، بلا اسم وبلا صوت
increase حجم الخط decrease
"عندما تتوقف الكلمات، تبدأ السينما"، هذا ما تقوله المخرجة البولندية آغا فوشتشينسكا في واحدة من لقاءاتها الصحافية، وفي فيلمها الروائي الأول "أرض صامتة" (2021) تقدّم ترجمة أمينة لذلك الشعار. ففيلمها الذي يشتبك مع تموضُعات الطبقة والبطولية واللامبالاة والهجرة والشعور بالذنب، يتغلّب على النبرة السياسية العالية لتيماته، عبر التقشف في حواره، متيحاً المساحة الأوسع للتأثيرات البصرية. وعلى النقيض من العنوان الموحي بالسكون، فإن شريط الصوت المداوم على خرق الصمت وإثارة الاضطراب داخله، يحتشد بجماليات تضاهي الصورة في كثافتها، لكن بالحد الأدنى من الكلمات، ومن دون موسيقى تصويرية. ففوشتسينسكا تعتمد على الأصوات الأولية، الصوت الخام من المعاني اللغوية، لتصنع أبجدية فيلمية خاصة ومجرّدة.

آنّا وآدم، الزوجان الأشقران جداً، بجسديهما المثاليين العاريين وملامحهما الأوروبية الشمالية، يملآن الشاشة بشحنة إيروتيكية، ومع حيويتها تشوبها برودة باهتة ومتوترة. يصل الزوجان إلى فيلا واسعة لقضاء إجازة في إحدى الجزر الإيطالية الصغيرة المشمسة. ما يكتشفانه سريعاً هو أن حمّام السباحة لا يعمل، وبعد مساومة مع المالك الإيطالي يعرض فيها تعويضهما بِردّ جزء من مبلغ الإيجار أو بعشاء مجاني في مطعمه، يصران على الالتزام بتعاقدهما، ويرضخ المالك ويعد بإصلاح حمام السباحة في خلال يومين.

تغرقنا المشاهد اللاحقة، بكادراتها الطويلة على خلفية من السماوات المشرقة وزرقة البحر، في جمالية موحشة. العزلة التي يتمتع بها الزوجان المفعمان بالشعور بالاستحقاق، تضاعفها تقنيات الأمان، البوابات الأوتوماتيكية وكاميرات المراقبة الموزعة في الاتجاهات كافة وأجهزة الإنذار. إلا أن تلك العزلة الصامتة، تتضح هشاشتها من البداية. فالشبابيك تصدر ضجيجاً عالياً ومزعجاً وهي تُفتح وتًغلق، والشعور بالرغد تنغصه تفاصيل صغيرة، حين يكتشف آدم على سبيل المثال أن المروحة التي لا تعمل. تلك الصورة المثالية على السطح، تخفي خلفها عالماً من العطب.

يصل العامل أسمر البشرة ليبدأ في إصلاح حمّام السباحة، مصدراً ضجيجاً يوقظ الزوجين. حضور الشخص الثالث يزعزع شعورهما بالخصوصية. في مشهد عابر وموحٍ، يغدو جسد العامل نصف العاري موضوعاً لاشتهاء آنّا ولغيرة الزوج. يتساءل آدم "هل له عائلة هنا؟"، وتجيب هي ساخرة: "لا أعرف، لكن الأكيد أن له الكثير من الإخوة الهائجين جنسياً".

حادثة انزلاق العامل أثناء العمل ووفاته على إثرها، تطلق سلسلة من الأحداث، ستتكشف خيوطها أمامنا، ببطء مقصود، يزيد من حمولة التوتر الممتدة بطول الفيلم. يخضع الزوجان لاستجواب روتيني في قسم الشرطة، لكن تسجيلات كاميرات المراقبة تناقض روايتهما في التحقيقات. كان في استطاعتهما تقديم العون للشاب المصاب وإنقاذه حياته، لكنهما اكتفيا بالاتصال بالمالك، والجلوس على مبعدة في انتظار الإسعاف.

في توازٍ، ربما لا يكون مقصوداًً، يذكرنا آدم بـ"غريب" كامو. العربي الميت هو محور الأحداث، لكنه هو نفسه بلا قيمة، عبثية الموت نفسها. جغرافيا حدث "الغريب" هي الجزائر المستعمرة، وفي "أرض صامتة" هي رقعة الاتحاد الأوروبي حيث حرية الحركة والحدود المفتوحة يزعزعها وجود المهاجر"غير القانوني". بطل كامو قاتل، ويخضع للمحاكمة. أما آدم فلم يقترف جريمة، أو بالأحرى جريمة اللامبالاة حقيرة لدرجة ألا يعتدّ بها.


عربي "أرض صامتة" لا يمتلك إسماً، فيما تظهر الشخصيات البولندية والإيطالية والفرنسية بأسمائها. في مشهد وحيد ومتأخر، تشير إليه آنّا بصفة "العربي"، لكنه لا يملك جنسية محددة، فهو مجرد علامة أكثر منه شخصاً. في عروض الفيلم في الصحافة المكتوبة بالإنكليزية، يتسبب ذلك التجهيل في بعض الخلط. ففي مقال، يُشار إليه على أنه سوري، ربما بسبب كثافة الحضور السوري في السينما الغربية في العقد الحالي. وفي مقال آخر، يُشار إليه على أنه أفغاني. وفي أكثر من مقال، يُكتفى بصفة العربي أو المهاجر.

حوار الفيلم يتوزع بين البولندية والإيطالية والفرنسية والإنكليزية، مع ترجمة في الشاشة. لكن العربي ليست له لغة. في مشهد قصير، يحاول الحديث مع آنا بإيطالية متعثرة، لكنها لا تفهم الإيطالية، فتردّ بالإنكليزية، وبعدها يتحدّث إلى نفسه بالعامية المصرية، بلكنة ريفية. تلك الجملة العربية الوحيدة هي ما لا تتم ترجمته في حوار الفيلم كله.

سعت فوشتشينسكا في فيلمها الأول الى تعرية الرخاوة واللامبالاة التي تميز الإفلاس الأخلاقي لعالمنا المعاصر، من دون أن يطغي مضمون عملها على جمالياته. إلا أنها، ومع حسن النوايا، قدّمت الآخر، العربي، مجرداً من فرديته، بلا اسم وبلا صوت، وبلغة خرساء. في البداية، قدمته بوصفه موضوعاً للاشتهاء وكتهديد جنسي، كما يليق بالآخر الإيكزوتيكي، ولاحقاً يصير جثة طافية. وطوال الوقت هو عبء، حمل ثقيل على الضمير الأوروبي، وفي أفضل الأحوال يكون موته المأسوي حافزاً لفحص الذات لدى الرجل الأشقر وتطهره من الشعور بالعار.

(*) يعرض الفيلم حالياً في صالا العرض البريطانية.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها