السبت 2022/01/08

آخر تحديث: 12:22 (بيروت)

محمد خضير... حبلُ الرواية وعنق الشعر

السبت 2022/01/08
محمد خضير... حبلُ الرواية وعنق الشعر
جابر عصفور
increase حجم الخط decrease
(في وفاة جابر عصفور)
كلّ حبلٍ ينقطع إلا حبلَ الأدب، إذ مهما شددناه عاد الى الارتخاء؛ ولا رخاءَ لحبلِ مَن تشتدُّ به الظنون وتوتِّر حسَّه الخطوب وتشغله مشكلاتُ الخطاب، من بين يديه، وعِبر نظَرِه، وخلفَه.

كيف لا، والأدبُ ممارسةُ حياة، وسبيلُ سَفَر، من الداخل للخارج، ومن الخارج للداخل؛ وكان هذا الحبلُ دليلاً في متاهة "ديدالوس" بيدِ "ثيسيوس"، لكنّه في عصرنا هو حبلُ مئاتِ التائهين حول العالم الافتراضي ومتاهاته الشبكية. إنّه عصر المشدودين إلى حقيقة ضائعة، متبدِّلة باستمرار. ليس للحقيقة مكان، والحبلُ أنشوطةٌ تضيق بتُؤَدة وإحكام حول أعناق المشدودين.

أفكّرُ الآن في "التائهين" في رواية أمين معلوف، وأشدُّ حبلَ الرواية من موقعنا، موقع المتاهة الداخلية، حيث الحبلُ ينشدُّ بيدي، وبأيدي روائيين آخرين تهمُّهم قضية المبادلة السردية حسب قانون الخطاب، الانشداد إلى "هوية" ميلان كونديرا المتحقّقة من موقع متباعد، ببطء وتعقّل شديدين. وفي طرف آخر، تتحوّل عقدةُ الشدّ نحو الطاهر بن جلّون، الآخذ بحبل المتاهة العربية نحو العالم المرصود بلغة هجينة، متى تَهُن العُقَدُ وتتفرّق تندحر فرضيةُ السَّرد المحبوكة من وحداتٍ ووظائف مشتركة بين أدباء الحبل الأمميّ/ الأنساليّ/ المُنَصَّص من عُقَدٍ متفرّعة في الكلام السردي.

الهوية، النَّسل، التنصيص، التوارُث، التبادُل، عُقَدٌ أوّلية في حبل الأدب. اليدُ-اللسان محورُ هذه التماثلات الكبرى، حتى تصغر وتتواطأ مع امتثالاتٍ فرعية، نظرية وعمليّة، أقرب إلى أيدينا-ألسنتِنا. تلوح في أفق الحبل المشدود أخيلةٌ واثبة وأخرى سائحة، وغيرها زاحفةٌ متسلّلة من جدران المتاهة السردية، المنسوخة مئات المرّات على نماذج بلاغية استيطانية. وهذه حقيقة تقودنا الى فرضية "زمن الرواية" المدوّر من فرضية "الشعر ديوان العرب"-حبلنا الممدود بلا ارتخاء.

في موقع دثرَتْه الحروبُ أكثر من مرة، وتوالت عليه أقدامُ التسلّط والجبروت. متى ابتدأ زمنُ الرواية العربية ولمّا يتصل بتقليد قديم، من جهة ما؟ بل لم ينشأ على تبدلات واقعٍ مدنيّ، مشدودٍ لضرورة تاريخية، بل صنعته متاهاتُ الحبال المشدودة على قياسها؟ خرجت الرواية الأوربية من متاهة الحبال الصناعية الفولاذية -السيطرة على العالم- فاستجابت لفرضيتها متاهةُ الحبال المفتولة من روح الامتثال والتحدّي. هنا نشأت قضيةُ التسارع الشرقي التعاطفي إزاء طبيعة "البطء" الميتافيزيقي الأوروبي، والحسّ التجريبي العقلاني. من عُمق الانهيارات العربية المتوالية، نشأ الشدُّ الروائي بحبالٍ أكثر قِصراً، بينما مدّده جابر عصفور وأسسّه على افتراضاتٍ راهية.

أكانَ على النقد العربي إنقاذ مؤسَّستِه وتنشيطها ابتداء من عقدة الترجمة والمقابسة الواسعة من متاهة "الآخر" المتقلّصة؟ أصبح ذلك مشروعاً لذوي الحسّ النقدي المشدود لحباله الشعرية، على جهتَي البحر المتوسط والخليج العربي. فإذا كان الزمن الروائيّ العربي قد بدأ حقاً من حبل الشِعر، فهذا لأنّ الحبل الشعريّ كاد ينقطع أكثر من مرة، فعقَدَه الخطابُ الروائيُّ وشدَّه من جديد، وهذا سببُ ما نلحظه من إسراف شعريّ في كتابة الرواية. وعلى أيّ نسقٍ وشدّ لغويّ،  باتت ولادةُ عقدةٍ قوية لازمةً للمشدودين، تقودُهم لمخرجٍ متاح من متاهتهم. وفي مقدمة هؤلاء النقّاد المعاصرين افترضَ جابر عصفور خِططَه المتوترة كحبالٍ تشدُّ الى خارج المتاهة العربية.

يتسع الزمانُ الروائيّ العربي لكتّاب مصر وكاتباتها (ولست بصدد إحصائهم وترتيبهم حول الحبل المشدود منذ أول مقابسة روائية لهم حتى آخرِها، بقدر زجّهم في ريادة المتاهات والخروج منها) تحفّهم شخصيات الزمن "المحفوظيّ" المتوّجة بشموخ التقليد وروح التجديد، ويشدّهم حبلُ المسير خلف ما نحسبه آخر موكبٍ جنائزيّ يغادر المتاهة الحادية والعشرين بعد الألفين.. موكب يختلط فيه الأحياء والأموات، وتمتدّ عُقَدُه في هذا الزمان وما بعد هذا الزمان.

(*) مدونة نشرها القاص محمد خضير في صفحته الفايسبوكية.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها