السبت 2022/01/08

آخر تحديث: 11:59 (بيروت)

سيدني بواتييه.. من غسل الصحون إلى الأوسكار وما بعدها

السبت 2022/01/08
increase حجم الخط decrease
لا يمكن تخيُّل الأعباء التي تحمّلها سيدني بواتييه (1927 - 2022) كي يصبح ما أصبح عليه، نجماً سينمائياً ورمزاً رائداً وأيقونة ملهمة. هو الابن لأسرة مزارعة فقيرة في جزر الباهاما، عاش فيها طفولته لكنه ولد أثناء رحلة تجارية لوالده إلى ميامي، ما أكسبه الجنسية الأميركية قبل انتقاله إلى نيويورك في سن الـ16، ثم اشتغاله ببعض المهن المتواضعة لكسب عيشه، وتزويره تاريخ ميلاده لينضم إلى الجيش. من بين المهن التي دار عليها، العمل بوّاباً لأحد مسارح "الزنوج". من هناك، اقترب من عالم التمثيل، ثم قايض راتبه بتلقّي دروسٍ في التمثيل، ثم تولّى تأدية بعض الأدوار في المسرحيات. لم يحبّه الجمهور في البداية، فهو لا يجيد الغناء كما يُتوقّع من شخص "زنجي" مثله. رفض أن يكون تسلية للجمهور الأبيض، لكنه استمر في التمثيل المسرحي لسنوات تالية، حتى ظهوره السينمائي للمرة الأولى في فيلم "لا مفرّ" No Way Out (1950، جوزيف مانكيفيتش) المشحون عرقياً.

رحلة شاقة لنيل الاستحقاق، لم تنسه أعباء إضافية يفرضها وجوده كممثل أسود ينتمي لجماعة مضطهَدة ومهضومة الحقوق، فلم يتصرّف حصراً وفقاً لهوى شخصي أو تعليمات إخراجية أو إغراءات إنتاجية، وإنما كان يفعل ما يفعله لأجل ناسه/شعبه، بما يفرضه عليه الواجب لتمثيلهم، سواء أحب ذلك أم لا. وكان يأمل أن يمضي الأمر قدماً، هو في مسيرته التمثيلية في معقل البيض، وشعبه الأسود المطالِب بنيل حقوقه والعيش كمواطنين لهم الحقوق ذاتها التي للبيض.

كانت طريق سيدني بواتييه إلى الشهرة وجائزة الأوسكار ولقب فارس من الإمبراطورية البريطانية، مليئة بالإرتدادات والتفاعلات، فتحت سكك ومهّدت طرقاً لأبناء عرقه لم تكن لتوجد لولاه. حقيقة كونه أول نجم أسود في هوليوود تبدو شيئاً جميلاً ومبهراً. أو كما لو كان محظوظاً وحسب. بالطبع لعب الحظّ دوراً في استمرار مهنته التمثيلية في مستعمرة يسيطر عليها البيض الأغنياء، لكن إذا كان شخص ما هو أول من يسلك مثل هذا المسار، فحينئذٍ يخطو مع كل خطوة إلى تضاريس جديدة غير معروفة وربما تكون ملغومة. وإذا لم يرد الكذب على نفسه أو على شعبه أو حتى على البيض، فمن الأفضل له أن يقوم بأدوار تعكس فعلياً حالة القتال/الصراع هذه.

غيّر بواتييه صورة السود في الشاشة، ومن دونه ربما لم نكن لنسمع بأسماء دينزل واشنطن وشادويك بوسمان وويل سميث وصامويل جاكسون وغيرهم الكثير من الممثلين السود البارزين، وهو أول ممثل أسود يفوز بجائزة الأوسكار لأفضل دور رئيسي، وأول ممثل أسود يحقق أرباحاً قياسية في شباك التذاكر. عكس صعود بواتييه تغييرات كبيرة في الولايات المتحدة في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، وكلما دار نقاش حول التنوع في هوليوود لا بدّ أن يُذكر اسمه.


وحتى إن شهد العديد من المعجبين البيض بحسن مظهره، وأنه كان رجلاً وسيماً ومثقفاً، فكل ذلك المديح كان مشروطاً بزمنه، أي فترة الستينيات والسبعينيات، وبالتالي محصوراً في عِرقه الأسود الأدنى مرتبة في نظرهم. لا عجب إذن، أن أسلوب ومظهر بواتييه السينمائيين تطوّرا واصطبغا بشيء من الذكاء القلق والحساسية العصبية والانضباط المحسوب، بصورة مشابهة - مع الاختلاف بين المثالين - لما أظهره فرانك سيناترا أيضاً كممثل. في فيلمه الأشهر "في حرارة الليل" (1967، نورمان جويسون)، يُقبض عليه بتهمة ارتكاب جريمة قتل، لا بسبب وجود أدلة تدينه، وإنما لأنه غريب وأسود البشرة. وإذ يتبيّن لاحقاً أنه ضابط شرطة أصلاً، فضلاً عن علو كعبه على المأمور نفسه من حيث الكفاءة؛ فإنه ما زال مطالَباً بإثبات ذلك. يبدأ المأمور في احترامه والإعجاب به، لكن عائقاً شعورياً كبيراً يحدّد العلاقة دائماً. فالرجل الأبيض في الواقع لا يحبّ السود. حتى نهاية الفيلم، سيمرّ وقت طويل قبل أن يُسمح لسيدني بواتييه أن يكون كفؤاً وأنيقاً. لا يخلو أي حديث أو تكريم لسيرة بواتييه من ذكر هذا الدور، حتى صار بمثابة إرثه الفني، ليس فقط بسبب أداء بواتييه المتميز في دور المحقق فيرجيل تيبس، وإنما أيضاً لأن الدراما كانت دعماً سينمائياً رائعاً لحركة الحقوق المدنية التي تشكلت في البلاد منذ أواخر الخمسينيات.

بيد أن أقوى أفلامه هو ميلودراما حرب أهلية شبه منسية، للمخرج راؤول والش، بعنوان "فرقة الملائكة" (1957)، استناداً إلى رواية بالعنوان ذاته للكاتب الأميركي روبرت بن وارن. لا يلعب بواتييه حتى الدور الرئيسي في الفيلم، الذي يحكي قصة امرأة بيضاء نشأت في عائلة غنية، وعندما يتوفّى والدها يتبيّن أن والدتها كانت واحدة من عبيد والدها السود. وهكذا تساق هي أيضاً للعبودية، التي تمثل لها كارثة لا تُحتمل. يلعب بواتييه دور شاب، تُعتبر هذه الكارثة بالنسبة إليه حياة طبيعية، لأنه لا يستطيع حتى إقناع نفسه بشيء عدا أنه رجل أسود منذور لخدمة سيده الأبيض اللطيف. دور معقّد وصعب في فيلم يردّد أصداء فيلم "ذهب مع الريح"، بتناوله قضايا العرق والعنصرية على خلفية الحرب الأهلية الأميركية، لكن أداء بواتييه لدور التابع المطيع والكاره لسيده (الذي تتكشّف لاحقاً حقيقته كوالد غير شرعي له) يبقى أقيم ما فيه.

تضّمنت مسيرته المهنية الممتدة أكثر من سبعة عقود، عدداً من الأفلام المهمة والأساسية. مسيرة تحقّقت بفضل إصرار وذكاء صاحبها، منذ التقطته عين المنتج داريل زانوك، رئيس شركة "أفلام فوكس للقرن العشرين"، للمشاركة في فيلم جوزيف مانكيفيتش إياه. ما تبع ذلك التاريخ كان، إذا جاز التعبير، قصة مزدوجة المنال: فمن ناحية، كانت أفلام مثل "لا مفرّ" و"الغابة السوداء" و"المتحدّون" دائماً إلى جانبه، وازدادت الأدوار أهمية على مرّ السنين. ومن ناحية أخرى، عكست هذه الأدوار دائماً مكانة النضال من أجل المساواة في الحقوق والتمثيل المتساوي، فيما ظلّ مصوّرو بواتييه وراسمو صورته السينمائية من وراء الكاميرا، من البيض. كما كافأته هوليوود بجائزة الأوسكار في العام 1964 عن دوره في فيلم "زنابق الحقل" للمخرج رالف نلسون، حيث سُمح لبواتييه باتخاذ خطوات ونيل استحقاقات أخرى طبيعية في مسيرة أي نجم سينمائي أبيض ممن تزخر بهم لوائح المتوّجين بالتمثال الذهبي.


برحيله، يتوارى أحد آخر النجوم الأحياء الباقين من "العصر الذهبي لسينما هوليوود"، ونموذج يحتذى به للمجتمع الأميركي من أصل أفريقي، حيث قام بحملات من أجل المساواة خارج الشاشة، ودعم حركة الحقوق المدنية، وعمل لاحقاً أيضاً كسفير لليونيسكو في جزر البهاما. حصل على لقب فارس في المملكة المتحدة العام 1974، وحصل أيضاً على العديد من جوائز الإنجاز مدى الحياة، بما في ذلك جائزة الأوسكار الفخرية و"غولدن غلوب" و"بافتا". في العام 2009، منحه الرئيس الأميركي باراك أوباما وسام الحرية الرئاسي، وهو أعلى وسام مدني أميركي. بحلول ذلك الوقت، كان قد انسحب إلى حد كبير من صناعة السينما والحياة العامة، مستمتعاً بالتقاعد مع أسرته. في أوائل 2021، قامت جامعة ولاية أريزونا بتسمية مدرستها السينمائية على اسم أيقونة الفيلم الرائدة. في الموقع الإلكتروني للمدرسة، يُقرأ اقتباس من سيدني بواتييه: "لا أحد يعرف كل ما يجب معرفته. المهمة هي أن تتعلَّم قدر ما تستطيع".
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها