الجمعة 2022/01/07

آخر تحديث: 12:42 (بيروت)

مكاي مزوّجاً الضحك للكَرب.."لا تنظر للأعلى" فيُغرقك زفت الحياة

الجمعة 2022/01/07
increase حجم الخط decrease
تأتي الكارثة بصدمتها، مصحوبة بإحساس الانتصار لدى المتنبّئين بها والمنذرين بقدومها. تماماً مثلما حدث بعد هجمات 11 أيلول قبل عشرين عاماً. من يومها، انتقلنا من حدث كارثي إلى آخر، من الحرب في العراق وأفغانستان إلى الكوارث المناخية الكبرى، من الأزمة الاقتصادية إلى هجمات داعش الإرهابية، وصولاً للجائحة الصحية المرتبطة بعدوى كوفيد-19 التي نختبرها منذ عامين تقريباً. طبعت تلك الكوارث واستحوذت على اهتمام وسائل الإعلام العالمية، والغربية على وجه الخصوص. الكارثة هي المصطلح الأنسب لتلخيص حال العالم المعاصر، اندفاعه نحو الإنقاذ المتأخر (مكافحة الاحتباس الحراري، على سبيل المثال) وانهياره الشنيع بالقدر نفسه: مجتمع متألم ومندوب ما زال يتخيّل ثورات غير موجودة. بعبارة أخرى، مجتمع في طور الانقراض.


سينقرض الجنس البشري، كما يخبرنا آدم مكاي، في فيلمه الجديد "لا تنظر للأعلى"(*)، أو بالأحرى، ستنقرض الكرة الأرضية كلها، بعد أن يضربها كويكب عملاق يبلغ قطره عشرة كيلومترات. يبدأ الأمر هنا، من الاكتشاف العَرَضي لمُذنَّب في حجم جبل إيفريست، يدور داخل النظام الشمسي وفي مسار تصادم مباشر مع الأرض. الفيلم يدشّن عودة مكاي خلف الكاميرا بعد ثلاث سنوات من ملهاته السينمائية "Vice" حول نائب الرئيس الأميركي الأسبق ديك تشيني. كان من المفترض أن تبدأ دورة إنتاج الفيلم الجديد بين نهاية العام 2019 وبداية العام 2020، لكن انتشار الوباء أفسد الخطط وأجبر مكاي-وهو المنتج أيضاً تحت راية شركته الوليدة "Hyperobject Industries"، في أولى مغامراته الإنتاجية سينمائياً بعد نجاح سلسلته التلفزيونية "Succession" - على تأخير التصوير لمدة عام. في تلك الأثناء، تنحّت شركة باراماونت، التي وقّع معها المخرج اتفاقية لتوزيع الفيلم -مرة أخرى بسبب مخاوف تتعلق بالجائحة– وتنازلت عن الحقوق لصالح شبكة "نتفليكس". والحقيقة، أن الفيلم يبدو، من بعض النواحي، حول الكارثة المحيقة بالسينما وتجربة الفرجة السينمائية، بعد تقليص أحيازها من الخيال الجمعي واستبعادها الآن (مرة أخرى، الجائحة عامل كبير) أيضاً من المسارح والصالات لصالح المنصات، ذات التوجه المحلي/الإقليمي وبالتالي الأكثر قابلية للإدارة.


للمفارقة، تشبه "نتفليكس" شركة "Liif" في الفيلم، لصاحبها ومديرها رجل الأعمال المختلّ بيتر إشريويل، الذي يبدو مزيجاً من ستيف جوبز وإيلون ماسك، بإيمانه المطلق بأن الذكاء الاصطناعي هو الطريقة الوحيدة التي يمكن للإنسان من خلالها التواصل مع آخر غير نفسه - أو بالأحرى مع أجزاء أخرى من نفسه - في لعبة أنانية لا نهائية، وهو مموِّل وحليف استراتيجي للإدارة الاميركية. مرة أخرى، يختار مكاي الهجاء وسيلةً لمقاربة وضع بلاده والوضع العالمي. بعد تناوله التاريخ الأميركي المعاصر، أولاً مع "أزمة الرهن العقاري" في فيلمه الأوسكاري "The Big Short"، متبعاً إياه بسرد ساخر للحياة السياسية لديك تشيني في "Vice"؛ قرّر الانتقال إلى سبيل الخيال العلمي الأبوكاليبتي، مستعيناً بالأسس الهيكلية لأفلام الكوارث، وتحديداً خطر تدمير الأرض على يد عامل خارجي - في هذه الحالة مذنّب هائل – وغرس حكاية فيلمه في مزاج وأجواء عصرنا الحالي. وهكذا، رغم حقيقة تصويره وكتابته قبل تفشي الجائحة، يتحوّل "لا تنظر للأعلى" من فوره إلى فيلم يتحدث عن الوباء. أكثر من ذلك، يمكن القول إن هذا أول "فيلم وبائي" حقيقي، باحتوائه فقرات بعينها توضّح كيف تتداخل معالم اليوميات السياسية والاجتماعية والإعلامية والاقتصادية المحددة لواقعنا المُعاش مع حكايته الخيالية التحذيرية: فكّر في التسلسل الموسيقي الذي تغنّي فيه أريانا غراندي، بلهجة آمرة ويائسة في آن "استمع إلى العلماء الأكفاء اللعينين"؛ فكّر في الإنكار الصارخ الذي واجهته طالبة الدكتوراه كيت ديبياسكي (جينيفر لورانس)، بعد اكتشافها المذنّب المدمّر ومعاينته وتقدير موعد اصطدامه، وأستاذها راندال ميندي (ليوناردو دي كابريو)؛ فكر في الانقسام الحاد بين أولئك المؤمنين بالعِلم ووصول المذنّب، وأولئك المنكرين والكافرين بوجود تلك الحقيقة؛ فكر في البروباغندا التي يطلقها البيت الأبيض، كما تخرج من فم الرئيسة (ميريل ستريب) التي تبدو كأنها وُلدت من سفاح قربى سياسي بين ترامب وهيلاري كلينتون وكامالا هاريس، وبالتالي يضع الفيلم الديموقراطيين والجمهوريين على المستوى نفسه من الاستقطاب والهستيريا واللاعقلانية.

نظرًا لكونه فيلم خيال علمي كوميدي، يغوص حتى العنق في "زفت" الحياة اليومية، يصبح "لا تنظر للأعلى" فيلماً متعدد الوجوه، كما هو الحال غالباً مع أعمال مكاي، الذي ينجز سينماه بالتشكيل على نصّ متشعب باستمرار، وتأسيس تقسيم طبقي/متعارض يعمل بمثابة السلاح السياسي لمحاربة فراغ مجتمعي.. يميل هنا، بدلاً من ذلك، نحو التبسيط المستمر، إما لتأجيج الكوميديا وتعميق السخرية، أو في سبيل إكمال المرآة المرعبة الموجّهة لجمهور يتفادى مواجهة الحقائق كمن يهرب من شيطانه. وفيما ينسج سيكولوجيات شخصيات فيلمه، المتنوعة بين أطياف متطرفة فكرياً، وتلميحات إلى أشكال السلطة الممكن توالدها في خضم حالة فصام جماعي؛ يبني مكاي، طبقة تلو الأخرى، سرديته المفجعة والساخرة لأميركا إذ قطعت رأسها وتخلّت عن عقلها، وفيها يبتعد عن الألم أو تفجير الفواجع لحلب العواطف، لصالح توليد مكثّف ومتلاحق للسخرية والضحك العالي، وكل عنصر من عناصر الحقيقة، لنقولها على غرار جيرار ديبورد، يستحيل "تمثيلاً": صورة لصورة عن صورة. الصورة مُفضَّلة على الشيء المصوَّر، النسخة على الأصل.

مكاي هو واحد من صانعي الأفلام الأميركيين القلائل اليوم الذين يشككون في النظام المجتمعي، وما يستتبعه، لذا فنقْده - أو لنقل اعتداءه؟ - المستمر لكل جانب من جوانب النظام، يشي بسمات اشتراكية بحتة (بالمعنى الإيجابي)، وهذا ربما يبرّر تلك الهجمات الضارية، ذات الطبيعة الأيديولوجية الصارمة، التي تتلقاها أفلامه في بلده. ولذلك أيضاً، لا يتواني في عمله عن خلق المفارقات الجنونية، والتعبير عن غضبه بقدرٍ يكافئ الجنون السائد، وفي هذه التربة المُضخَّمة من كل شيء ونقيضه، يجد نبرته التعبيرية المثالية: الخوف مصحوباً بالتهريج، والكارثة ثمرة أكيدة  للتجهيل والإنكار، ونهاية العالم كوميدية كما لم تكن من قبل.


كما فعل سيث روغن وإيفان غولدبرغ، قبل أقل من عشر سنوات، في فيلمهما "هذه هي النهاية"، يرسل مكاي أيضاً العالم كله إلى هلاكه مدندناً أغنية بذيئة، وهو يفعل ذلك كعملٍ سياسي. تصبح الكوميديا ​​هي المقاومة الفعّالة الوحيدة لإيصال "حقيقة" باطلة، لكن قبولها كأمر معقول منعقد على مجتمعٍ فقد إحساسه بالجماعة، وبالتالي بالوجود المادي. لهذا السبب، فقط من خلال العمل الجماعي (الاحتجاج في الميدان، والحفلة الموسيقية، وأخيراً العشاء المنزلي بين الأقارب والأصدقاء)، يقول الفيلم، لا يمكن للمرء أن يعيش، لأنه في نهاية العالم لا يمكن للمرء إيقاف المحتوم، لكنه على الأقل يستطيع استعادة كرامته. نجح مكاي في التقاط نقطة الالتقاء المدهشة بين الضحك الجامح - الفيلم عبارة عن وابل من المواقف الكوميدية متضافرة بشكل مثالي بفضل عمل شاق وذكي في مرحلة الكتابة - والكرب العميق، والحنين إلى الحياة، والنقاء الصادق حتى في أكثر اللحظات المبتذلة عند الاقتراب من المحتوم.

أخيراً، ورغم قسوة خطاب الفيلم وهجائه الحاد للسياسات والعقلية الأميركية، فمن المستحيل، نظرياً على الأقل، خروجه من موسم الجوائز من دون الظفر بحفنة منها. كل ما فيه وحوله يقول أن سعي "نتفليكس" لحصد الأوسكار الكبير قد يتوّج أخيراً بهذا الفيلم التخريبي الممتع.

(*) يُعرض حالياً في "نتفليكس".

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها