الجمعة 2022/01/07

آخر تحديث: 20:03 (بيروت)

تظاهرة مارون الخولي

الجمعة 2022/01/07
تظاهرة مارون الخولي
حقوق العمال الحقيقية لا تنتج تظاهرة مقبولة اليوم (عباس سلمان)
increase حجم الخط decrease
يصعب التكهن بمدى قدرة الاتحاد العام لنقابات عمال لبنان، برئاسة مارون الخولي، على الحشد للتظاهرة الغريبة التي دعا إليها غداً السبت في ساحة الشهداء بوسط بيروت، في زمن عزوف اللبنانيين عن النزول إلى الشارع للاحتجاج على كوارث محيقة بهم بالجُملة، بسبب اليأس أو التعب أو الغرق في تأمين مستلزمات الحياة التي تزداد صعوبة كل يوم. لكن دعوة الاتحاد، المنتشرة في وسائل التواصل الاجتماعي، مذيّلة بعبارة "النقليات مؤمّنة". أي أن الاتحاد يطمح إلى استقطاب "جماهير" العمال من مختلف المناطق اللبنانية، ويرصد موازنة (في عزّ الأزمة) للمواصلات التي ما عادت متاحة للكثير من الموظفين ومعلّمي المدارس.. ومن أجل أي قضية؟ "ضد إلزامية التلقيح (ضد كورونا).. ومع حرية الاختيار"!

رغم كل ما هو معروف عن سوريالية السياق السياسي والمطلبي اللبناني.. ورغم أنه واحدنا، كل يوم، يقول لنفسه: ما عاد شيء مفاجئاً في لبنان، فإن دهشة اللاتصديق تجد هنا مستقَراً واسعاً، ويحار المرء بين الضحك والبكاء والغضب الشديد.

ففي البلد الذي فقدت عُملته الوطنية أكثر من 90% من قيمتها، وبات عمّاله خصوصاً على حافة العوَز بالمعنى الحَرفي للكلمة، إذ بالكاد تتجاوز أجورهم الشهرية ما يعادل 20 دولاراً، إضافة إلى ما يتعرضون له من صرف تعسفي وإقفال مؤسسات كانت تشغّلهم، وبطالة وغياب التأمينات الصحية والاجتماعية... ثمة مَن يدعوهم اليوم للتظاهر من أجل "حرية الاختيار" في تلقي لقاح كورونا الذي لم يجعله أحد إلزامياً ولا هو بالوفرة اللازمة أصلاً!

المظلة التي يقف تحتها صاحب الدعوة، هي قرار الحكومة الأخير "بوجوب أن يكون العاملون والأجراء في القطاعات الصحية والتربوية والسياحية والعسكرية والأجهزة الأمنية وقطاع النقل العام والعاملون في القطاع العام والبلديات واتحاداتها، ملقحين، أو أن يخضعوا، على نفقتهم الخاصة، لفحص PCR مرتين في الأسبوع، تحت طائلة منعهم من مزاولة عملهم، مع ما قد يترتب من نتائج قانونية تبعاً لذلك".

الخولي يصدّر نفسه لحماية "ناسه" وحريتهم في أجسادهم، وحقهم بأن تُخاطَب هواجسهم بشأن ما يسمعونه، ولو على ألسنة رجال دين مخبولين وخبراء كاذبين، عن مشاكل صحية و"شيطانية" يتسبب فيها اللقاح. وذلك في بلد لم يبق فيه من الحريات العامة والخاصة إلا النزر اليسير، بما في ذلك حق الناس البديهي في الوصول إلى ودائعهم في المصارف، بل ورواتبهم التي تُسرق بفعل تعميمات مصرف لبنان والمصارف الجهنمية... في البلد الذي تجتاحه كورونا بمتحور "أوميكرون" بشكل غير مسبوق، اقتصاده ممحي، مستشفياته تشكو أعباءها وازدحامها وشحّ كوادرها الطبية، والدواء يفقد دعمه – هذا إن وُجد من الأساس – ومواطنوه شبه عراة من أي غطاء صحي أو اجتماعي ومُطالبون بالدولار الفريش قبل حصولهم على الرعاية... البلد الذي يتسوّل اللقاحات من دول العالم، فتأتيه كهِبات وصدَقات.. البلد نفسه الذي ثارت ثائرته – عن حق – حينما ميّز نوابه أنفسهم، فتلقوا اللقاح قبل مواطنيهم، حينما كان اللقاح ما زال نادراً وقد تأخر وصوله إلى لبنان عن معظم دول العالم... البلد الذي ما زالت نسبة التلقيح فيه على حافة ثلث عدد السكان، والإصابات والوفيات ترتفع صاروخياً...

في هذا المناخ الصحي المرعب، مضافاً إلى المصائب المالية والتربوية والفقر المتفاقم، نتخيل مارون الخولي وقد استيقظ ذات صباح، فغسل وجهه وسرّح شعره، احتسى قهوته في فنجان طُبع عليه شعار اتحاده مع نسر فوق خوذة عامِل، ثم تفرغ للتفكير في ما يمكن عمله لـ"القاعدة" المسحوقة التي يمثلها. فلمَعت في رأسه فكرة التحرك على إيقاع خزعبلات المختلّين ونظريات المؤامرة وربما أيضاً (لم لا؟) أطروحات عن أن الأرض مسطّحة. فكّر أن هذا ما يحتاجه عمّال لبنان اليوم، أكثر من المطالبة بضمان حصولهم على اللقاحات، وفي أسرع وقت، ونشر التوعية بينهم على أهمية التلقيح، والضغط من أجل استرداد ما أمكن من حقوقهم كموظفين وأجراء.

قد يقول قائل إن إنكار ضرورة التلقيح، في أوسع نطاق، والتنظير لـ"شرور" اللقاح، مع سردية الشرائح الالكترونية التي تُزرع معه في الأجساد من أجل التحكم بالبشر من غرف مظلمة.. من الأمور المتفشية حول العالم، وفي الدول الأعرق في الديموقراطية والتنوير والإنجازات العلمية. وهذا صحيح. لكن النقاش الدائر، في فرنسا مثلاً، حول الضغوط التي يمارسها الرئيس ايمانويل ماكرون وحكومته بما يجعل اللقاح شبه إجباري، يتمحور حول المواطنة في بلد تتحقق فيه المواطنة مع خدمات الدولة الرعائية والاجتماعية، وحول الحرية في بلد لا يكاد يمرّ عليه يوم من دون نقاش حول قضية عامة تتعدد فيها الآراء إلى درجة التناقض وأحياناً التطرف، والإعلام مسؤول بالحد الأدنى، ومُحاسَب مِن المجتمع والدولة والقانون. أما منظّرو المؤامرة، فعلى الهامش، بل ويرتفع باضطراد عدد متلقي الجرعة الأولى من اللقاح، وتنكمش تظاهرات رافضي اللقاح كظواهر سيرك ديموقراطي. وماكرون يواجه اليوم خصومه السياسيين، على أبواب انتخابات رئاسية وشيكة، بجَرّ الواقع الحياتي، من شَعره، إلى ميدان النقاش السياسي والانتخابي، بعدما كان كثر من منافسيه يُغرقون الجدل في هوامات هوياتية وعناوين مُطلَقَة وعائمة ترتكز إلى الغرائز المسماة قومية ووطنية، من قبيل عقدة المهاجرين ومعنى "الأصالة الفرنسية".

لبنان، بمارونه الخولي، ليس أكثر ديموقراطية من فرنسا التي أقرت منذ يومين وبغالبية برلمانها مفاعيل "شهادة التلقيح" التي ما عاد ممكناً فعل الكثير في الحياة اليومية من دونها. ولا من ألمانيا والنمسا اللتين تتخذان بدورهما خطوات مالية وإدارية من شأنها حصار رافضي اللقاح لدرجة دفعهم لتلقيه. وذلك على قاعدة أن حريتك، حين تمس حريات الآخرين أو تشكل خطراً عليهم، تصبح تعدياً على الديموقراطية، ومعروف أن غير الملقحين باتوا تهديداً فعلياً للأمن الصحي والقومي والاقتصادي في أي بلد. والدولة اللبنانية، التي قاربت استحقاقها لقب "الفاشلة"، تستحق مقارعتها في كل الميادين الأخرى، لكن الحميّة العمّالية والنضالية لمارون الخولي دفعته للاحتجاج في الميدان الوحيد الذي لا يستوجب رفضاً بل دفعاً للمثابرة في التوجه نفسه. فهكذا أسلَم وأنظف وأضمَن.. ونكون قد تظاهرنا ومشى الحال.

نقابات السلطة اللبنانية تمارس السياسة بالطريقة الوحيدة التي تجيدها: لا نستطيع الاحتجاج في الشارع ضد الحكومة والعهد لأي سبب جوهري وحقيقي "خوفاً على السّلم الأهلي"، أو بالأحرى لارتباطاتنا العديدة بهما، لا سيما على مشارف الموسم الانتخابي.. لكننا نريد "همروجة" ما، فلتكن إذن هذه التظاهرة الفضائية... وعلى عكس العالم بأسره، وخلافاً للمنطق والعِلم والسوية العقلية، فلنجلب الخرافي إلى السياسي، لنعيش في لبنان الذي يستحقه مارون الخولي وأشباهه الأكثر من الهمّ على القلب.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها