الخميس 2022/01/06

آخر تحديث: 13:46 (بيروت)

طنجة لم تعد كوزموبوليتية.. ومقهى المثقفين أكله ماكدونالدز (2)

الخميس 2022/01/06
increase حجم الخط decrease
لطالما كانت مدينة طنجة الاسطورة المغربية، وجهة الكتاب الأوروبيين والأميركيين، ومن خلال عيشهم فيها أو زيارتها جعلوها مركز أحلامهم وتجاربهم وهواجسهم، واعتبرت مدينة كوزموبوليتية على مدى سنوات، نلمح ذلك من خلال الكتب التي صدرت عنها أو عن كتّابها ومجتمعها ومقاهيها... وتعددية المدينة تركت أثرها الكبير في الثقافة، من خلال تفاعل الثقافات وتلاقي المثقفين والشعراء والفنانين والروائيين والحكواتيين، ولم تخل تلك المرحلة من المناوشات والاتهامات والانتهازيات و"الانحرافات"... بالمختصر شكلت ثقافة طنجة الكوزموبولوتية ظاهرة لا يمكن غض النظر عنها، أنتجت كتابات، باتت مصدر إلهام للعديد من السرديات والنصوص والنوستالجيا... ولا ضير أن يلتصق اسم محمد شكري بالمدينة كما التصق اسم نجيب محفوظ بالقاهرة، أو جيمس جويس بدبلن، أو بول أوستر بنيويورك (بالطبع مع اختلاف التجارب والمستويات)، على أن طنجة التعددية الحلمية البوهيمية أصابتها التحولات والتبدلات... انتهى عنقود الأدب الادبي الذي ساهم في سطوع نجمها، وتلاشت تلك الأماكن التي كانت مقصداً للكثير من الاسماء العالمية... بعد الحلقة الأولى عن بول بولز وطنجة، هنا الحلقة الثانية عن تعددية المدينة في حوار القاص والمترجم المغربي عبد المنعم الشنتوف، حول نهاية طنجة كمدينة كوزموبوليتية...


عشت طفولتي في طنجة في فترة كانت تعيش فيها آخر عهدها بالتعدد الثقافي واللغوي والديني. كنت أقيم في حي حسنونة العريق المعروف بتعدد أعراقه. كانت تقيم بجوارنا أسرة تتكون من أب مغربي مسلم وأمّ يهودية كان لها قلب يسع العالم كله وقد كبر أولادها الخمسة مسلمين. كان لدي صديق طفولة يهودي اسمه جيمي، توفي في أواخر التسعينيات في حادث سير بين طنجة وأصيلة. لم أتعرّض اطلاقاً مع الصديق الراحل جيمي إلى معضلة الصراع العربي الاسرائيلي. وأتذكّر في هذا السياق، انّ هذه الأسرة اليهودية المنتمية إلى أسرة لاريدو العريقة وكان عميدها اسحاق لاريدو - عمدة التراجمة المعتمدين في طنجة ايام فترة الوصاية الدولية ومؤلف كتاب "يوميات عجوز طنجاوي"، رفضتْ إطلاقا فكرة الهجرة إلى الكيان الصهيونى، وما زال أفرادها أو من تبقى منهم يقطنون في طنجة.

في موضوع العلاقة مع اليهود، التقيت للمرة الأولى والأخيرة بالكاتب المغربي اليهودي الراحل، الحاج ادمون عمران المليح، في أصيلة اثناء تكريمه. رجل أصيل بكل معنى الكلمة ومغربي وعربي حتى النخاع. يكره الصهيونية بشراسة ويقول باستمرار: "لعنة الله على اسرائيل". كان هذا الرجل شيوعياً صلباً وأحد رموز المقاومة المغربية ضد الاستعمار الفرنسي.

أعرف أيضاً سيون اسيدون، وهو مغربي يهودي شيوعي، وأحد أبرز رموز المعارضة المغربية. وقد تعرّض مراراً لتعنيف الشرطة المغربية بسبب نشاطه المعادي للتطبيع مع العدو الصهيوني. كانت لي علاقة مودة خاصة مع راحيل موريل، المغربية اليهودية ومديرة مكتبة الاعمدة العريقة في طنجة. وقد رفضتْ بدورها فكرة الهجرة إلى الكيان الصهيوني وفضلتْ العيش والموت في طنجة.

هيبيز
عشت سنوات حضور موجة الهيبية الشهيرة التي خلدها الروائي محمد شكري في روايته "السوق الداخلي". وكان أكبر أخوالي مقيماً حينها في لندن وقد تأثر بهذه الموجة وأتذكّر أنه استقدم معه ذات عودة صديقين انكليزيين من مدينة ليفربول، كانا يمارسان سلوكيات غريبة  ولا يتوقفان عن التردّد على المقاهي الشعبية في طنجة وتدخين الكيف والحشيش.

كنتُ أرى الهيبية أو الشباب الهيبيين بكثافة في أواخر السبعينيات، ولم أكن تجاوزت العاشرة من عمري، في جنبات وزوايا وأزقة ومقاهي "السوق الداخلي"، وأيضاً في حي القصبة ومقهى الحافة. كانوا في غالبيتهم من انكلترا والولايات المتحدة وأيضاً الدول الاسكندنافية. لم يكن لدي اتصال بهم بحكم عامل السن، لكنني أتذكّر فقط الصديقين الانكليزيين اللذين جاء بهما خالي ذات عودة الى طنجة. كان الهيبيون يقيمون بشكل جماعي في بنسيونات السوق الداخلي، ويتميزون بقيمة العيش الجماعي والحرية الجنسية. وأعتقد شخصياً أن موجة الهيبيز كانت امتداداً طبيعياً لجيل البيتلز (جيل الصرخة) الأميركي...

عدا جاذبية المدينة للهيبيز، كان بين طنجة وتجارة المخدرات زواج كاثوليكي، كانت هذه المدينة باضطراد معبراً رئيساً لتجارة وتهريب المخدرات. ولم يكن من المستغرب ان يستقر بها كبار أباطرة المخدارت المغاربة بشكلٍ خاص وأن يقوموا بتبييض أموالهم في شكلٍ عقارات واستثمارات مشبوهة.

دعارة
في المقلب الآخر، أتذكّر أيضاً أنني عشت بداية هجوم البترودولار الخليجي على طنجة الذي كتب عنه الروائي المغربي الفرنسي، الطاهر بن جلون، في عمله "ما الحب إلا للحبيب الأول". شهدت فيلات بعض الاثرياء من بلدان الخليج في الجبل الكبير، حفلات مجون صاخبة بطلاتها صبايا تتراوح اعمارهن بين 16 و19 سنة. وكان ثمة قوادون يسهلون تلك المأموريات الرخيصة.

وللدعارة تاريخ في طنجة. في فترة الحماية الدولية كانت ثمة أزقة وحارات مخصصة لاقدم مهنة في التاريخ وكانت العاهرات في غالبيتهن يهوديات أو إسبانيات. لكن بعد حصول المغرب على استقلاله اصبحت الدعارة حكراً على المغربيات القادمات حصراً من الدار البيضاء أو مكناس وبعض حواضر جبال الأطلس.

اعتقد أن زمن طنجة الكوزموبوليتية ولى بما يعنيه ذلك من تعدد عرقي ولغوي وثقافي. ثمة عودة لهيمنة احادية ثقافية ذات مظهر عربي إسلامي، وانحسار رهيب لقيمة الانفتاح على الآخر. يؤسفني حقاً أن أشهد اندثار وتلاشي بعض المعالم الثقافية الشاهدة على هذا الزمن مثل حانة دينز الشهيرة، أو حانة لا باراد التي كان يرتادها رموز جيل البيتلز أو القضاء على مقهى مدام بورت الشهيرة التي كان يجلس فيها صمويل بيكيت وجان جينيه وتينيسي ويليامز وتحولها الى فرع للوحش الأميركي ماكدونالد. كان هذا المقهى الجميل بهندسته المعمارية الرائعة والذي دشن في الأربعينات، قبلة يومية لكتّاب كبار. وكان يتردد عليه هندي يقرأ الكف لهؤلاء الكتاب.

يؤسفني التردي الذي طاول مسرح "ثرفانتس" الشهير الذي شيّد في أوائل القرن العشرين، واحتضن تجارب وعروضاً مسرحية رائعة لفرق مسرحية عالمية من بينها فرقة "لا باراكا" لغارسيا لوركا.

طنجة الكوزموبوليتية أصبحت مجرد ذكرى. بينما الدعارة تزداد استفحالاً. وتطاول الآن صبايا في عمر الزهور. واعتقد أن انتشار الفقر وغياب العدالة الاجتماعية، أسهم في حمل الآلاف من الفتيات على مغادرة المدن والقرى الفقيرة والنزوح إلى طنجة بغرض الدعارة.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها