الثلاثاء 2022/01/04

آخر تحديث: 18:38 (بيروت)

المشاعر كمسألة سياسية

الثلاثاء 2022/01/04
المشاعر كمسألة سياسية
increase حجم الخط decrease

ما زلنا نتبادل التهاني بالعام الجديد. أمنيات نُمطر بها بعضنا البعض، هي نفسها، على الأرجح، منذ الأزل، وغالباً ما تتمحور حول الصحة والسعادة وراحة البال... الكلمات-المضادات للخوف والمعاناة والألم. نقائض حياتية، نتلفظ بها كرغبات محسوسة نرجو تجسدها واقعاً. ليست بالضرورة إجابات على مشاكل أو أزمات، بل ربما هي علاجات ذهنية، أكثر من أي شيء آخر، لمشاعر ترهبنا، تزعزعنا، تهز حيواتنا وتطيحنا منذ عامين على الأقل. ترياق استباقي وراهن لحالات نفسية هي تمظهُر ما نعيشه. نعرف أنها ليست تماماً في المتناول، وأن أقصى ما قد يتحقق منها هو ثباتها بدلاً من إمعانها في التدهور والاقتراب من قاع نخشاه طالما أننا لم نتمكن من تعيينه حتى الآن. ومع ذلك، نصدّرها، كلقاحات الكورونا التي لا تلوح في الأفق نهاية لجرعاتها التذكيرية.

المشاعر.. عنوان يستحق اعتباره كونيّاً في توصيف العام المنقضي، والعام البادئ بِكراً، وهو في الوقت نفسه محمّل بما يتربّص بنا علاوة على ما أصابنا، فنحمّله بما نأمل أن يحمينا.

نحن في زمن اللا-يقين. تعبير بات منتشراً بلغات العالم كافة. كورونا كرّسته وثبّتته. وأعانتها في ذلك أزمات (تحديات بتعابيرالمتفائلين) اقتصادية وسياسية، تختلف حدّتها من مكان إلى آخر في العالم، لكنها حاضرة. سواء تعاملنا مع انحيازاتنا/شكوكنا في العولمة والرأسمالية وحتى العِلم والطب... مع موت الإيديولوجيات والحروب العسكرية والثقافية والدينية والطبقية، الذي يبدو أن بعده قيامات عديدة... مع استقرار للغرب – مضطرب الآن - في بوصلة القيم والمعاني، ومع عملقة التكنولوجيا في حياة الفرد والجماعة... أو سواء انخرطنا في إدارة نكباتنا في نطاقها المحلي، العميق والقاتل، والذي لا يحتاج كثير شرح في السياق اللبناني والمشرقي.

الغضب حالة مستشرية، ليس من دون مسببات بالطبع، بل هي مسببات أساسية وحيوية. لكن الكلام هنا عن ظاهرة مشاعر وأحاسيس معممة ومتفاقمة إلى الحد الذي يشابه الجائحة نفسها. في طيات الغضب، منسوجات القلق والضيق والتوتر، كما بتقنية الجَدّات حائكات كنزات الصوف كثيرة الألوان. لوحة لم تعد اختصاص علم النفس وحده، أو حتى العلوم الاجتماعية والانثروبولوجية، بل صارت موضع اهتمام ودراسة لكليّات العلوم السياسية ومراكز الأبحاث التي تخاطب صنّاع القرار والسياسات، وخائضي الانتخابات، والمعنيين بصوغ الرأي العام لهذا السبب السياسي/الاقتصادي أو ذاك. حتى أن دراسة حديثة لـ"مركز سياسات المشاعر" في "جامعة لندن" (أنشئ في أيلول/سبتمبر2021) تشرح تجاربها الابستمولوجية والتي، بحسبها، تثبت أن الغضب يؤثر في الخيارات السياسية، لكن ليس بتحدي السائد والمعارضة والتمرد، وصولاً إلى أشكال مختلفة من الثورات، على غرار ستينيات القرن الماضي مثلاً. فبعدما "أظهرت الأبحاث السابقة، أن الغضب مرتبط بردود أفعال أقرب إلى المواجهة والعقاب، أثناء الأزمات، وبتأييد الأيديولوجيات الاستبدادية"، فإن الغضب الآن يفضي إلى تزايد "احتمال اختيار قادة سياسيين أكثر هيمنة وأقل جدارة بالثقة (...) والأهم من ذلك، أن هذا التغيير غاب عندما طُلبت من المشاركين الإشارة إلى الأفراد الذين يعتبرونهم أكثر نجاحاً، ما يشير إلى أن نتائجنا خاصة بسياق القادة السياسيين". إنها بوادر خراب.

الحقيقة صارت مسألة نسبية، وجهة نظر، رأي سياسي، مُتغيّر طبقي وثقافي وجيليّ، في عالم تتمدد فيه الشعبوية، قياداتٍ وأفكاراً وأنماطَ حياة. وفوق ذلك، فإن اشتباكها مع العقلانية بات، في حد ذاته، مسرحاً للفرجة، حفلة يرقص فيها الجميع حتى التعب قبل أن يأوي كل إلى "بيته"، ويَنفَضُّ العَرض. والمشهد هذا ليس بمعزل عن تداخل المشاعر في الحياة العامة ومساحاتها. فيلم "نتفليكس"، Don’t Look Up، رغم كل الانتقادات، لخّص أزمة الحقيقة كوجه آخر لأزمة الثقة في كل شيء وأي شيء، أزمة الإنسان المعاصر القادرة – حرفياً – على إفنائه أو السعي إلى إنقاذه، ربطاً بالحُكم والحوكمة، بمعركة امتلاك السردية الرابحة، بزوابع الإعلام في المتن والهامش، وبالتكنولوجيا واقتصاداتها وسياساتها وثقافتها.

"الخبراء" ما عادوا كافين في هذه المرحلة، التي، رغم كل الادعاءات، لا تبدو صديقة للتكنوقراط. منذ القرن السابع عشر، يُعلى الغرب العقلانية على المشاعر، كقاعدة للعمل السياسي. القيادة التي تحتكم للعقل أولاً، للحقائق والمعطيات الموضوعية، تعتبر ذات فضيلة. أما تلك التي تلعب على العواطف، فهي بلا ضمير. بيد أن هذا المنحى من التنوير اصطدم، خلال السنوات القليلة الماضية، بالأرض، على ما يناقش أستاذ الاقتصاد السياسي في جامعة "غولدسميث"-لندن، وليام ديفيس، في كتابه Nervous States (دول عصبية/متوترة). وهو الذي يقول بموجب أخذ مشاعر الناس بجدية، كمسائل سياسية، بدلاً من تجاهلها ونبذها كأنها تشويش على الرصانة. وفي رأيه، هنا أخطأت هيلاري كلينتون عندما لم تُحسن مخاطبة جمهور دونالد ترامب، فخسرت الرئاسة. وهنا أيضاً أخطأت الحملة المناهضة للـ"بريكست" إذ ركنت للدراسات والإحصاءات والأرقام، ولم تحسن تحفيز جمهورها (لا سيما الأجيال الشابة) على الإقبال على التصويت من خلال صورة حيّة عن مستقبل أوروبي مشترك، فيما اشتغلت حملة "بريكست" على مشاعر النوستالجيا و"الوطنية"، ففازت.

في هذا الضوء، قد يتأمل واحدنا في خطابات ثلاثة سياسيين/زعماء للبنانيين، خلال اليومين الماضيين. السمة المشتركة بينهم، إلى جانب تمثيلهم الطائفي، أنهم كلهم تحت عقوبات دولية، بتُهم فساد أو إرهاب، بل منهم مَن يُصنّف فارّاً من العدالة ومُجرماً بالمعايير الأممية. فضحوا بعضهم البعض، وتوجهوا إلى قواعدهم الأهلية والانتخابية في ما يسمى ابتذالاً "شدّ العصب"، بكلام عن الوجود والزوال، عن الهجوم والدفاع والاستهداف والاندثار في حروب آتية أكثر ضرواة من الحروب المُعاشة. إنها السياسة اللبنانية الشعورية الصافية، نقيّة من أي عقلانية، وبالتالي من أي شُبهة صدق أو دقة أو ديموقراطية، شفافية أو كفاءة. لقد سبقنا العالم برمّته، وتفوقنا.

لكن قبل أن ندعو الكوكب لمراقبتنا والتعلّم، لعل نصيحة صغيرة من كتب علم النفس التربوي تسلط ضوءاً أكثر سطوعاً وتبياناً. تقول النصيحة للأهل: اعترفوا بمشاعر الطفل، ولو بدت لكم مجافية للحقيقة والمنطق، أعطوه ذلك الحق بلا تعليقاتكم النافية والناهية والمستنكرة، ثم ركّبوا له منظاراً مغايراً وادعوه لرؤية أخرى.

العالم يخوض صراع السياسة المُوازِنة بين المشاعر والعقلانية، مع مواطنين، بالغين راشدين مؤثّرين. أما اللبنانيون، فأطفال لأهل مستبدين. حكّام ينتخبونهم ويعيدون إنتاج سلطتهم، بفعل الغضب والخوف. يثبتون تجارب "سياسات المشاعر"، من دون أن تدق تلك التجارب، المكررة منذ عقود، ناقوس خطر. فهذا الأخير بات مقيماً وثابتاً، لا يحتاج الجرس الذي يقرعه زائر طارئ.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها