الجمعة 2022/01/28

آخر تحديث: 12:19 (بيروت)

لبنان دولابه بَرَم... وينك يا يوسف كرم؟ (2)

الجمعة 2022/01/28
لبنان دولابه بَرَم... وينك يا يوسف كرم؟ (2)
يوسف بك كرم
increase حجم الخط decrease
ذاكرة شعبيّة مقولَبة في خدمة النزعة المجتمعيّة المُشتَرَكة(*)
تعترف الذاكرة الشعبيّة لرجال يوسف كرم ومقاتليه "القبضايات"، بالفضل في صنع قوّته وسطوته، ومنهم الذين استشهدوا في المعارك. منهم على سبيل المثال لا الحصر، بطرس توما الذي قيل إنه في إحدى المعارك حمل المدفع على كتفه وصعد به في الجبل لاستعماله في مواجهة العدو، ومنهم الشيخ أسعد بولس المكاري، والغزال، وغيرهم كثيرون. والفخر ببطلهم يجعل الإهدنيّين-الزغرتاويّين يفتشون عن صلة  قربى بينهم وبينه، أو بينهم وبين أحد رجالاته الأشدّاء، مثبتين أنهم متحدّرون من سلالة رفاق كرم الذين قاتلوا وضحّوا من أجل الوطن، كما من أجل زغرتا إهدن. ولا تستغرب إن وجدت أحدهم يروي لك أخبار المعارك بصيغة المتكلّم الجمع، "رجعنا حرّرنا سبعل وأيطو، وحَمَيْنا إهدن" أو "وقت وصلنا عالمعاملتين كان صار عددنا بالألوف...". يكرّر روايته للمرة الألف كأنّما ينشد أبيات ملحمة يجد فيها مفخرة واعتداداً بالانتماء وبالبطولة.

كلّ هذه الأخبار رسمت فوق كرم هالة جعلته موضع احترام وتقدير وتعظيم وتقديس في نفوس أبناء المنطقة، ودفعهم، خصوصاً أبناء زغرتا البلدة، إلى تخليد اسمه وصورته من خلال قصائد شعبيّة مطوّلة ونشاطات وأعمال وجمعيات ونوادٍ حملت اسمه وعملت وإن بشكل متقطّع في مجالات إنسانيّة واجتماعيّة ورياضيّة مختلفة ففي زغرتا-إهدن جمعية بطل لبنان يوسف بك كرم التي تأسست في النصف الأوّل من القرن العشرين، وكانت لها نشاطات اجتماعية وفنّية، مثل العمل، غير مرّة، على تقديم مسرحية "بطل لبنان" على مسارح مرتجلة في مواضع طبيعيّة متعدّدة من إهدن (حمينا، جبل السيدة، الكتلة) وذلك بإخراج وتمثيل محلّي بشكلٍ عام. في حمينا أو السيدة كان بإمكان ممثل دور البطل، الذي قيل إنّه يشبهه شكلاً، أن يظهر بحصانه على المسرح أو في موقع التمثيل، وهو ما يزيد من حماس الجمهور. واللافت أن الممثل الذي كان يلعب دور البطل بات له موقع خاص في قلوب الناس خصوصاً من أتباع عائلة كرم، يتعاملون معه في الحياة العادية بشيء من التهيّب والاحترام والتقدير. وفي تسعينات القرن الماضي، بمناسبة الذكرى المئويّة لوفاة البطل عرضت مسرحيّة عنه في بيروت، من إخراج ريمون جبارة وتمثيل مجموعة من الممثلين المشهورين وعلى رأسهم أنطوان كرباج في دور البطل. استمرّ عرض المسرحية شهوراً عديدة وذلك بفضل مجموعات الزغرتاويّين الذين نُظّمت رحلاتهم إلى بيروت لحضور المسرحيّة، فكنا نرى الباصات بأعداد كبيرة تمتلئ وتنقلهم. ومن المؤكّد أن ما جرى هناك، في صالة المسرح ما ينمّ عن هذا إيمان الجماعة الصادق والعميق بهذا البطل، وتعلّقهم بكل ما يمثّله أو يمت إليه بصلة. كانت تعلو الصيحات والهتافات والدعاءات كلّما ظهر البطل يوسف بك على المسرح، كما تصدر من هنا وهناك تعليقات الدعم والتأييد والتشجيع والحماسة للبطل مقابل الاستهزاء والسخرية والشتائم في حقّ أعدائه، كلّما أُتي على ذكرهم أو كلّما تواجه معهم على الخشبة، (وفي السنة التالية عرض جزء ثانٍ منها من إخراج الأخوين شربل وأنطوان النعيمي).

وما يجدر ذكره أنّ لهذه الجمعية فروعاً في الاغتراب، في المدن الكبرى التي للجالية الزغرتاوية تواجد كبير وواسع فيها، وذلك في المكسيك والولايات المتّحدة، وفي أستراليا حيث ما زالت الجمعية ناشطة اجتماعياً في أوساط الجالية حتى اليوم، في سيدني وميلبورن، تحت اسم "جمعية زغرتا- جمعية بطل لبنان يوسف بك كرم"، ولها مقرّ فخم في سيدني خاص بمختلف المناسبات الزغرتاويّة، يشارك فيها ويديرها أبناء زغرتا من مختلف العائلات تقريباً.

ومنذ ثلاثينات القرن الماضي تأسس في زغرتا نادي كرة قدم باسم "التمثال" تيمّناً بالبطل، وظلّ ناشطاً، وإن بشكل متقطّع حتى تسعينات القرن الماضي. ومن المظاهر الفولكلورية التي كانت ترافق نشاطات النادي ومبارياته، أنّ واحداً من جمهور النادي كان يحمل مجسَّماً مصغَّراً لتمثال البطل ويسير به على رأس موكب المشجّعين، أو يُركَّز بشكل مرئيّ في وسطهم على المدرجات. والمجسَّم هذا من خشب، تخصّص في نحته أحد الحرفيّين الذي كان يبيعه من عشّاق كرم في الوطن والاغتراب.

ففي زغرتا إهدن أصبحت كلمة "التمثال" بمثابة اسم علمٍ، يُشار بها إلى البطل يوسف كرم، بالرغم من وجود تماثيل كثيرة لشخصيات ورجالات دين في البلدتين، وذلك من باب دلالة الجزء على الكلّ، أو تعريف الشخصية بصفتها أو بأحد لوازمها. يكفي أن تسمع أحدهم يذكر التمثال، أو يُقسِم به، "وحقّ التمثال"، و"حياة التمثال" و"رحمة التمثال"، لتعرف من يقصد وتدرك مدى صدقه وإيمانه بما يُقسم به وإخلاصه له، ولتحدّد أخيراً انتماءه السياسيّ.

واضح تركيزنا هنا على النظرة الشعبيّة البسيطة والبريئة إلى شخصيّة محلّية لعبت دوراً وطنياً مهمّاً في مرحلة خطيرة من تاريخ الوطن. وقد بلغ الأمر أحياناً، بهذا الهوس الشعبي بصورة البطل القديس، حدّ السذاجة في ما يتعلّق بالموقف السياسيّ. لا شكّ في أنّ أبناء المنطقة قد رأوا في صراع كرم مع داوود باشا وغيره من الحكام الأتراك مواجهة بين البطل المسيحيّ المدافع عن أبناء طائفته، وبين ممثل السلطنة العثمانيّة التي تمثّل الخلافة الاسلاميّة. وحول هذه الناحية تُروَى على شكل طرفة واقعة بسيطة حدثت في ستينات القرن الماضي في أثناء حملة إنتخابيّة لنائب زغرتا السابق يوسف سليم كرم. ففي أثناء حملةٍ انتخابية في منطقة مرياطة التابعة لقضاء زغرتا، وذات السكان المسلمين، وفيما النائب يتكلّم ويذكر مآثر البطل وعلاقته بالمسلمين في حينه، وحرصه على التآلف والتعايش، ودفاعه عن لبنان ككلّ، مال أحد مرافقيه على جليس بجانبِه وقال له: "لولا سيفه ما ضل جرس يدق بلبنان".

هذه الفكرة المنقوصة عن يوسف كرم، والنظرة إلى سياسته و"ثورته" باعتبارها صراعاً دينيّاً أو طائفيّاً مع السلطنة العثمانيّة، والمترسِّخة خطأً في ذاكرة بعض شعبيّته، جاء لاحقاً من يصحّحها، ويسلطّ الضوء على مواقفه الوطنيّة المتقدّمة، ومنهم على الأخصّ الصحافيّ سركيس أبو زيد الذي له عدّة مؤلفات في سيرته وسياساته. وإن لم يكن هنا مجال كلامٍ على ذلك، لكن من المهمّ أن نلفت إلى أنّ هذه الدراسات ألقت الضوء على ما تحلّى به يوسف كرم من ثقافة وفكرٍ سياسيّ متقدّم. يذكر أبو زيد أنّ كرم كان أوّل من نادى بالوحدة العربيّة على أساس "القوميّة" وكان يسمّيها الجنس، وذلك عبر نظام كونفدرالي (كان أوّل من استعمل كلمة كونفيدراسيون Confédération)، وذلك في مراسلاته مع الأمير عبد القادر الجزائريّ، وفيها يدعوه صراحة إلى إقامة "سلطنة عربيّة" إذا لم تعمل السلطنة العثمانيّة على إصلاح نظامها وعلى الحكم بالحقّ والعدل.

كما لفت أبو زيد إلى أن كرم استشرف معاهدة سايكس- بيكو عندما تحدّث عن إمكانيّة تقاسم فرنسا وانكلترا الأقطار العربيّة بعد سقوط السلطنة العثمانيّة فيما روسيا منشغلة بحروبها في القرم، ويخلص في رسالة إلى عبد القادر إلى القول: "... بينما حكومة روسيا منهمكة بالحرب الحاضرة، فإن حكومتَيْ فرنسا وإنكلترا قد هيّأتا الوسائل الآيلة إلى تجزئة الديار العربية، إلى أقاليم تلجأ إلى حمايتها، ولحمل هذه الأقاليم على رفض حماية الحكومة الروسية، خوفاً من أن يجمع الجنس العربي صفوفه، ويصبح حكومة واحدة..." و"... لدى سقوط الحكومة العثمانية، يتلقّانا الأجانب بالإرث عنها، ولا يعود يستطيع الجنس العربي أن يتّحد تحت راية واحدة".

وهذا، إن دلّ على شيء، فهو ينمّ عن ثقافة كرم وسعة اطلاعه وحسن تبصّره وقدرته على التحليل والاستنتاج، والنظرة البعيدة، وكان يتكلّم لغات عديدة، وأتقن فنّ المراسلة، كما نظم الشعر. وهو في مواجهة الحاكم التركيّ، حاول إكساب موقفه بعداً وطنياً وحصّنه بالتفاهم مع زعماء الجوار من المسلمين، وأقام معهم اتفاقات على حسن الجوار والتعاون، كما مع حاكم طرابلس آنذاك، عبد الحميد كرامي. وقد حمل فكرة العروبة  ودعا إلى الوحدة العربيّة وعمل لها، على أن يكون المسيحيّون، والموارنة على الأخصّ، جزءاً أساسيّاً من هذه الوحدة. وفي إشارة لافتة إلى ثقافة كرم، وموقفه العروبيّ، يروي سركيس أبوزيد ما يلي نقلاً عن مذكّرة باللغة الفرنسيّة طُبعت في باريس ومتوفّرة عنده: "في أثناء وجوده في جزيرة كورفو، حضر كرم حفلة راقصة دعا إليها قنصل روسيّا العام، وحضرها ممثّلو الدول الأوروبيّة وقنصل السلطنة. في خلال الحفلة قال السفير الألمانيّ مخاطباً كرم: "إنّ الأمّة التركيّة هي الأمّة الأولى المتحضِّرة في العالم. فبينما كانت تسيطر على إسبانيا أسَّست الحضارة في أوروبا". فأجابه كرم قائلاً: "إنّي أقرّ لسعادتكم بحسن النيّة، لكن اسمحوا لي أن أذكّركم بأنّ المسلمين الذين سيطروا على إسبانيا كانوا من الأمّة العربيّة".

ويعلق أبوزيد: "فلربّما كان كرم هو أوّل من استعمل تعبير الأمّة العربيّة. والكلمة وردت في النصّ الفرنسيّ nation arabe في زمن كانت تُطلَق كلمة nation على الطائفة. ولذلك يرى البعض أنّه ما يزال هناك حاجة إلى التعمّق في دراسة سياسة يوسف بك كرم، بالعودة إلى الوثائق والمراسلات في محفوظات الدول الكبرى وخصوصاً في محفوظات السلطنة العثمانيّة في استنبول".


أيّاً يكن، ليست هذه المواقف والآراء هي التي عُرِفت ونُقِلت في الذاكرة الشعبيّة التي لم يعنِها من الزعيم والقائد سوى ما تبدّى منه من بطولات ومواقف رجوليّة في تصدّيه للحاكم التركي المستبدّ. وربّما هذا ما تحتاجه الشعوب في زمن الشدّة، بطلٌ يأخذ عل عاتقه لواء التصدّي للمحتلّ، يكتسي في نظرهم مظهر البطل الأسطوري، التقي والعادل والشجاع المقدام. ولذلك ربّما توسَّم البعض، ومن أتباع كرم، خيراً في حركة ميشال عون يوم دخل قصر بعبدا في ثمانينات القرن الماضي، وشبّهوا مواقفه وما تعرّض له من مواقف، خصوصاً من البطريرك الماروني والسفير الفرنسيّ، بما واجهه كرم من معارضة البطريرك بولس مسعد وعدائية قنصل فرنسا وتآمره عليه، وعملهما معاً على نفيه خارج البلاد. ولسنا هنا في معرض النظر في صحّة هذا التشبيه أو عدم صحّته، لكن يرى الكثيرون أنّ الفرق شاسع بين الرجلين، خصوصاً من ناحية الثبات على المبادئ، ويكفي أن نقرأ ما كتبه كرم في منفاه، عندما تناول معارضته الدائمة للثلاثيّ "متصرّف لبنان والقاصد الرسوليّ والبطريرك المارونيّ" الذين وقفوا ضدّ عودته إلى لبنان "إلا على شرط أن أعبد إرادتهم، الأمر الذي ما أزال أرفضه على الإطلاق، وعلى أي وجهٍ كان، ولو أنهيت باقي حياتي في الغربة". وهو فعلاً انهى حياته في الغربة ولم يتنازل ولم يحِد عن موقفه الوطنيّ في نظره، بعكس ما فعله ميشال عون، الذي انفضّ من حوله كثيرون من الأتباع عندما عاد إلى لبنان مغيّراً وجهة سياسته.

إن نظرة الأهالي في زغرتا إلى الرجل الذي شكّل في نظرهم بطلاً أسطورياً قدّيساً، لا تختلف أبداً عن نظرة وآمال سائر الشعوب التي تعود إلى جذورها في أزمنة الشدّة والخطر، وتستنبش ماضيها، وتستعيد صور أبطالها العظماء، وتضفي عليهم هالة من القداسة أو القدرة ما فوق البشريّة. وهو ما يرى فيه الدارسون رغبات وأمنيات متأجّجة في أن يعيد المجتمع إنتاج أبطال جدد يخلّصون الوطن أو الجماعة من مصائبها. وحول هؤلاء العظماء تروى الحكايات، وتُنظم الأشعار، مرتقية بهم إلى مصاف القديسين والأولياء والمخلّصين. ألم تكن هذه نظرة الشعوب إلى جاندارك الفرنسيّة وإلى عنترة بن شداد في العصور العباسيّة التي استعادت سيرته في تلك المرويّات الشعبيّة. فكما نظمت الشعوب أشعاراً ركيكة ونسبتها إلى عنترة في سيرته، كذلك نظمت الأشعار و"القرّاديات" في يوسف كرم، وهي على بساطتها وسطحيتها تعبِّر عماً يعتمل في نفوس هؤلاء الناس وعن حاجتهم إلى بطل ينقذهم. يروون مثلاً أن رسولاً من داوود باشا جاء عند يوسف بك طالباً منه أن يسلِّم نفسه مقابل بعض المنافع.

فقال له الرسول محاولاً إقناعه:
"ما فيك تهدّي ساعة             تحت سيوف اللمّاعة

سلِّمْ وأدّي الطاعة                بِتسليمَك ما بتخسر"


فكان ردّ البك:
"حارِم سلِّم عن يدَّك              روح عنّي يمّا بقِدَّكْ

وكانّك مشتاق لجدَّكْ             قرِّب صوبي يا معتَّر"


أبطال من التاريخ القديم، أو من الحديث، أَوَليس هذا هو اليوم حال شباب وثوار العالم الحديث في نظرتهم إلى غاندي وغيفارا ومانديللا، وقد بات هؤلاء كلهم يمثّلون في الوجدان الجمعيّ مثال الحرية والفروسيّة والبطولة والشهامة والكرامة، والنبل الإنساني؟

وربما لأنّ اللبنانيّين عموماً، وموارنة الجبل اللبنانيّ خصوصاً، ظلّوا على مدى السنين يحسّون الخطر ويعملون على درئه، استمروا في ذلك في زمن الحرب اللبنانية وحتى يومنا هذا وهم يعيشون أيام الضيق والقهر والظلم. ولذلك ترى أحدهم، وقد استفقد الرجالات التي يمكن أن تنقذ الوطن، ولم يجدهم، يكتب على جدار دعم في أيطو على طريق إهدن حول صورة يوسف كرم، وسط صور رموز دينيّة ووطنيّة من المنطقة، العبارة التالية باللغة الشعبيّة:

 " لبنان دولابُه بَرَمْ        وينَك يا يوسف كرَمْ؟"

عسى يأتيه مجيبٌ! 

 (*) بعد الجزء الأول، هنا الجزء الثاني والأخير من مقالة طويلة عن ظاهرة يوسف بك كرم ومعناها الاجتماعي في زغرتا...

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها