الجمعة 2022/01/28

آخر تحديث: 12:22 (بيروت)

عن سلمان المرشد وخوفنا من الذين يتصلون بالله

الجمعة 2022/01/28
عن سلمان المرشد وخوفنا من الذين يتصلون بالله
المرشدية
increase حجم الخط decrease
نحن لا نبحث عن حقيقة ظاهرة النبوة حينما نكتب عن نشأت مجد النور، أو عندما نعود بالتاريخ قليلاً ونتحدث عن سلمان المرشد في سورية. هناك شيء معياري يُشير إليه الفيلسوف بول ريكور، بأن الظواهر الدينية متاحة أمام الخيال؛ فلا رقابة على الخيال وليس عليها أن تكون. لكن في إعادة تأسيس دين أو ظاهرة النبوة، فيُشير ريكور إلى أن عنصر الخيال يتراجع تدريجياً تجاه عنصر التنقيب في الماضي كدلالة رقابية على الحاضر. فريكور يرى أن الذاكرة الدينية لا تنتزع من حيواتنا، كما لا يمكن خلق ذاكرة دينية جديدة لنا. ونقل المعنى الديني في الذاكرة قد يتم عبر وسائط نصية أو شخصية، لكن دون إنتاج حالة جديدة أو دين جديد. إنها مجرد حلقة من التناقل والتوارث.

إننا ندرس شخصيتين غير كتابيتين بل ناطقتين، فنشأت منذر ينطق أمامنا، والمنطوق هنا شيء رئيسي، وكأننا أمام شخصية يونانية درامية لكنها لا تملك أي فنٍ أو خطابة لتجذبنا. لكن مع ذلك يجذبنا أن نستمع إلى مواضيعه لكونه بدعة جديدة أو لحاجتنا إلى مشاهدة مقدس جديد. حتى السخرية من نشأت تملك شيئاً فنياً وتعدُّ تجربة ذاتية أيضاً. ليس سهلاً أن تشاهد من يدعي صلته بالله، وليس صادقاً أن البعض لم يشعر بالفضول لسماعه. إن صفة الاتصال بالقدسي أو المقدس مكررة لكنها في كل مرة تحمل شيئاً آخر غير السخرية.

الأكثر غرابة أن تأتي السخرية من المصريين؛ الشعب الأكثر ارتباطاً بالنص الديني وكهنته، بدءاً من الدروايش والصوفية والسلف، أو أي شخصية قد تحمل صلة بالمعرفة الدينية أو الروحية، وصولاً إلى تقديسهم الشيوخ وأرباب الفتاوى والتفسير.

كان سلمان المرشد منقذاً اجتماعياً لفئة دينية مهمشة في أقصى جبال الساحل السوري؛ لقد تنبه مرشد إلى أن مجتمعه المحلي يملك في غريزته توقاً فطرياً طبيعياً لشخص يجسد الحياة ويقود دفتها السياسية والاجتماعية للانفتاح على العالم. كانت خدعته الروحية تؤمن إشباعاً لحاجة تلك الفئة المحاصرة القليلة الحيلة التي كانت تظن أن العنف مصدر جوهري لحياتها. وحتى القمع الذي تعرضت له كان كفيلاً بالاستنجاد بالمخلص لعصورٍ مضت كانت تنتظره في أفكارها؛ "حيث يوجد الخطر يظهر المنقذ" هولدرلين. كان سلمان المرشد يعرف ماضي ديانته، التي حملت في طيات عذاباتها حُلماً بالمخلص، فما كان عليه إلا أن يأتي على هيئة "المهدي المنتظر" الراسخة في المخيلة الشيعية الإمامية، وأن يمنح صورته شيئاً من الصوفية العلوية ذات الشعبية الكبيرة على مستوى الرمزية الصوفية والمخيالية المُريبة. إنَّ جاهزية العلويين وتوقهم إلى وجود الأب المخلص في ذلك الزمن كانت هائلة؛ ولا فرق عندهم بين المخلص الراعي والمخلص الإقطاعي. كان سلمان يملك قوة هائلة على المستوى العسكري والتمثيل الاجتماعي المدعوم من الفرنسيين، ما أتاح أمامه المجال ليفعل ما يشاء، بل ليشكل ميليشيا في زمن كان فيه التسلح في وجه فرنسا جريمة تستدعي تدخلاً جوياً!

لا يملك سلمان إنتاجاً، هو حالة ممسوخة من التقية الدينية التي تجسدت مادياً في حياة الناس البسطاء، وحتى مسيرة أولاده لا تدلنا على المرجعية، ولا على قيمة ما يملكونه من معرفة، بل يميلون إلى تجسد إلهي في شخصه ولا يعترفون فيها، ولا يملك أيّ منهم شعوراً بالذات الإيمانية أو قدرة على التعبير عنها سوى ببعض الكلمات والجُمل التي لا تملك جوهراً حقيقياً. كان لابنه أن يُكمل الديانة سِراً؛ وبذلك تحولت شخصيته في عقول أتباع الطائفة إلى صورة المسيح في موته وإعدامه فداءً لأبناء الطائفة، أما زوجته التي قُتلت في معركة القبض عليه لأنها رفعت سيفاً فجعلوها مثل القديس بطرس. وإلى صورة إمام لانتمائه إلى آل البيت في النورانية الإسلامية، فالدين ومعرفته امتدت إلى أبنائه، أما كتب الطائفة فهي كتب الديانات السماوية كُلها.

يحرص نشأت اللبناني على تصحيح مسيرة رسوليته؛ إذ عاد سريعاً لتبني الكُتب السماوية. كل مدعٍ للرسولية أو التبشير الديني سريعاً ما يتنبَّه إلى أن وعي الناس لا يقبل الخروج عن الماضي الديني، كما قال ريكور: "لا دين جديد في العالم سوى ما نعرفه من الماضي". لكن شجاعة ادعاء الارتباط بالله والصلة معه؛ تبدو طائشة وغير مدروسة. شيءٌ من هذا يشرحه هيغل عندما أشار إلى حقيقة معرفة الله فقط عبر الشعور، لكن تاريخ الفلسفة والسياسة والدين يُشير إلى أن فهم الله لا بد من أن يأخذ شكلاً موضوعياً. تاريخ الفلسفة وتاريخ الدين يقومان على جعل الله ذاتاً منفصلة عن إنسانيتنا، وفوق وعينا ووجوده موضوعي حتماً، ويخضع لتأمل منطقي وفلسفي ناجز لا يمكن الانفكاك عنه؛ أي إن الجميع عليهم أن يدافعوا عن الله بالصفة التي اعتقدوا بها واقتبسوها من الكتب أو ورثوها ممن حولهم، أو حتى في شعور الفرد الخاص الحميمي والضمني. الله لنا كُلنا وتخصيص رسله وأنبيائه قد خضع لموافقة قبلية لا يمكن التفكير فيها، لكن لماذا لا يُمكن إعادة خلقها؟ من هنا ينسى الناس سؤالاً مطروحاً حينما يدافعون عن حقوق أنبيائهم بشراسة، وينساها أيضاً العلمانيون في سخريتهم من مُدعي النبوة الجُدد؛ هل هذا العالم يحتاج إلى القداسة؟ يُجيبنا هايدغر أيضاً عن هذا السؤال في أن نزع القداسة عن العالم مُضرِّة؛ فكينونة الله اختفت بظهور الحضارة الأوروبية وبتبلورها.

لكن ماذا عن منطقتنا التي تمتلئ بالشعوذة والتقاليد القدسية والمباركين والدروايش والمتصوفين؟ تستند مساءلة نشأت وسلمان المرشد إلى تأملات حقيقة في دفاعنا المُستميت عن إلهنا، والآلهة المتخيلة. في هذا مثلاً قد يبدو نشأت بوصفه نباتياً يملك نزعة متعاطفة مع الطبيعة؛ فالحيوانات وتعاملنا معها هي موضوع لسلوكنا الأخلاقي لأنها تملك روحاً، ونشأت يدافع عنها كدعوة إلى التوقف عن القتل والذبح، وتطهر الجسد والروح من العلاقة الدموية مع الذبيحة. ويبدو متواضعاً لأنه لا يُقيم وزناً لأي كاره أو شاتم له، سوى تهديد عام للساخرين لأنهم ينقضون كرامة الشخص وقوله؛ هذا لا يعني أنه ليس من الحماقة أن نصدق أو نفكر بتصديق نبوته، لا من منطلق الدفاع عن آلهتنا، بل لأن حجم انتظارنا للرسول أو النبي يرتبط حتماً كما يقول ديفيد هيوم بالمعجزة. ولم يقصد هيوم ربط النبوة بالمعجزة، بل قصد في قوله أن الناس يتداولون تاريخ المعجزات كسبب مركزي لقبول النبوة والله أيضاً. كان على نشأت أن يظهر معجزته دون إشهار، وحينما حاول تصويرها بدت ساذجة. خلطه لما يُسمى علوم العرفان وشعوذة الجن... وغير ذلك، جعل متابعيه في حالة هيستيرية انتقامية تجلَّت في صورة سخرية وتسخيف.

نحن نلوم نشأت أكثر مما نلوم الكهنة والشيوخ الأكثر صلة بالإلهي وبالدفاع عنه وعنا معه. ونتجه إلى الدفاع عن تجسد الإلهي فيما نعرفه فقط أو نقدر على التعدي عليه، وكأننا قد حسمنا تأملاتنا أمام قداديسنا وصلواتنا وسلوكنا. قسوتنا ظهرت تماماً في أننا لم نقبل أي صلة مع الله يتخيلها أحدٌ ما، ونسينا أن الله صار يعيش في الذاكرة، وأننا لا ندافع عنه إلا بالذاكرة، لا بالإسقاط والتجديد والتفلسف. وتجاهلنا أننا امام ديانات وضعية لم تتغير سلوكياتها منذ نشوئها، ولم نجرد تفكيرنا نحوها لنعتقد بإله ندافع عنه بالمنطق والفكرة والفلسفة ونقاربه من البشر.

هذا الكلام ليس دفاعاً عن نشأت بل إعادة طرح لسؤال النبوة والإلهي والمقدس، لا كما يُريد سلمان مرشد، ولا كما يُريد نشأت، بل كما نُريد نحن لنجاور الله في حياتنا دون حاجتنا إلى مدعين ورسل وأنبياء. هل يظن أحدٌ منكم بأن بشار الأسد أو صدام حسين لا يملكون أتباعاً يظنون أنهما على ارتباط بالله أو أنهما أقرب إليه من بقية البشر؟ مشكلتنا ليست في نزع القداسة من العالم، بل الابتلاء بقداسة وشعوذة لا يُمكن الخروج عنها أو الثورة عليها. على الله الذي امتدّ التفكير فيه منذ بدء الكتابة عنه وتأسيس واحديته، أن يكون بجوارنا كما يقول هايدغر، هذا بعد أن نقطع شوطاً كبيراً بالتفكير والاقتناع بأننا نصنع خياراتنا كأحرار لا كعبيد.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها