الخميس 2022/01/27

آخر تحديث: 14:45 (بيروت)

لبنان دولابه بَرَم.. وينك يا يوسف كرم؟ (1)

الخميس 2022/01/27
لبنان دولابه بَرَم.. وينك يا يوسف كرم؟ (1)
روزنامة يوسف بك كرم
increase حجم الخط decrease
ذاكرة شعبيّة مقولَبة في خدمة النزعة المجتمعيّة المُشتَرَكة(*)

قلّما أجمعت منطقةٌ على تقدير رجالاتها وتعظيمهم، كما أجمَعَت زغرتا-إهدن (بلدتا الجماعة الواحدة) على تقدير وتعظيم شأن يوسف بك كرم، الزعيم والقائد الإهدني الذي لعب، على المستوى الوطني العام، دوراً سياسيّاً وعسكريّاً مهمّاً في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، مقارعاً الوالي العثماني بالتفاوض حيناً وبالمواجهات العسكريّة أحياناً أخرى، مع ما أحاط بهذه السياسة من معاملات معقّدة وملتبِسة مع الوسطاء الغربيّين، الفرنسيّين خصوصاً، ومع البطريركيّة المارونيّة في أيام البطريرك بولس مسعد على الأخصّ.

ومنذ ما يزيد عن قرنٍ من الزمن، ساهم هذا الإجماع في ترسيخ صورة البطل الوطنيّ المندفع والمخلص، والمؤمن التقيّ والورع، القديس!!! حتّى تشبّعت بها نفوسنا مع بدايات تفتّحنا على العالم، مع ما يُزرع فيها على يد الأهل والمحيط من إيمان ومعتقدات، وحكايات ترتقي في الكثير من الأحيان إلى مستوى الثوابت البديهيّة والأساطير، أو شبهها، التي دبَّجتها وطوّرتها الذاكرة الشعبيّة، إنما قولبتها أيضاً النزعة المجتمعيّة المُشتَرَكة إلى ما يرضي غرور المجتمع أو يهدّئ من مخاوفه ويطمئنه إلى مستقبله. ونحن، في فتوّتنا ولين عودنا، نتشرَّب ذلك إما في جرعات عاديّة وبسيطة ومنتظمة، أشبه بريّ الزهور والعناية بها يوميّاً، وإمّا بموجات ودفقات تشكّل جَرْفاً يهزّ الكيان ويغيّر كثيراً في جوهره.

في تلك الأيام، طفولتنا البريئة ومراهقتنا البَرِّية، زمن اللاتلفزيون ولا وسائل تواصل، وزمن الراديو المحدود البرامج والحكر على الكبار، والصحف التي أتى تآلفنا معها في زمنٍ متأخّر، تبقى وسيلة التلقّي الوحيدة هي ألسنة الأهل في الوحدة الصُغرى، البيت، ترفدها وتُغنيها ألسنة الأقارب والجيران والأتراب في الحارة والمحيط، الوحدة الأفسح لتوسّع الأخبار وترسّخ الأفكار كمسلّمات يقرّ بها الجميع، والتي بها يبدأ تكوّن ثقافتنا الفطريّة البسيطة بموضوعاتها المتنوّعة المستمدّة من صلب مجتمعنا ومحيطه بالطبع، قبل أن تتطوّر هذه الثقافة وتغذّى من الدراسات الجامعية والعلاقات الاجتماعية والسياسيّة والحزبيّة، فيسقط منها الكثير من القشور والخرافات والمبالغات، ولا يبقى إلا ما يمكن إخضاعه للحقيقة التاريخيّة ولحكم المنطق.


(منزل يوسف بك كرم)

من هذا المحيط تسرَّبت إلينا أخبار يوسف بك كرم ومكوّنات شخصيته واحدة تلو الأخرى. مسربّ أول: تتفتّح عيناك على صورته في كلّ منزل ودار، معلّقة على جدار، ومن دون استثناء، وإن تكن ثابتة ولازمة في الأحياء التي تنتمي سياسيّاً إلى آل كرم. ليس فقط الصورة المطبوعة في الروزنامة التي تعدّها وتوزّعها سنويّاّ "جمعية بطل لبنان يوسف بك كرم"، مقابل تبرّعات بحسب قدرة الفرد أو العائلة، بل صورة له مبروَزة ومعلَّقة في صدر الدار عند كلّ الأهالي تقريباً، دلالة على الانتماء أو على الوفاء لهذا البطل الذي لا تغادر أخباره مخيِّلة الجماعة. والصورة عادة هي لتمثال البطل المرفوع على "الكتلة" أمام كنيسة مار جرجس في إهدن، يمثله ممتطياً حصانه ممتشقاً سيفه وعينه حانية على بلدته إهدن في التفاتة واثقة ومطمْئِنَة. أو هي صورة نصفيّة تمثّل الزعيم بكامل ثيابه التقليديّة الرسميّة وقبضة السيف بادية على وسطه، بملامح وجه دقيقة، واثقة وصارمة إنّما من دون قساوة أو فظاظة، بما يساعد المخيّلة على الجمع فيها ما بين الفروسيّة والقداسة.

مسربٌ ثانٍ: من باب تقواه، لا بل قداسته في نظر الأهالي. نضيّع شيئاً ما، نفتش عنه ولا نجده، تأتينا النصيحة أو التذكير من عجوز تراقبنا، أو من أحد أترابنا ممّن تلقى النصيحة من قبل. قلْ وردّدْ: "الله يرحم إمّك وبيَّك يا يوسف بك!"، ونروح نردّدها في قلبنا ونحن نفتشّ، أو معاً بصوت عالٍ، إلى أنْ نعثر على الغرض الضائع فتكتمل العجيبة. صغاراً وكباراً طبّقنا النصيحة. وربّما بعد وعينا وتعلّمنا، حلّلنا الأمر وعرفنا أنّ اللجوء إلى يوسف بك كان يمدّنا بالتصميم، وربّما للتأكّد من قدرته على مساعدتنا، فنجدُّ في التفتيش والتدقيق، في الأماكن الظاهرة والخفيّة، في المنطقة المحصورة التي ضاع فيها الغرض، وعندها لا بدّ أن نجده. لكن صدقاً، ما يزال بعضنا حتى اليوم يردّد الدعاء تلقائيّاً في قلبه عندما يضيّع غرضاً ما، ربّما من باب تذكّر ما كنّا عليه ليس إلّا.

يُخبر أحدهم، من خارج منطقة زغرتا وليس من أتباع كرم: "أضعت محفظة أوراقي ومضى ثمانية أشهر من دون أن أعثر عليها. ظللت أفتّش عنها حتى قال لي والدي: "خلص، انساها يا ابني، تذكرة الهوّية عملت غيرها، والمصاري الله بيعوّض". لكن أمّي، التي لها أنسباء في إهدن أخذت عنهم الإيمان بقداسة البطل، عادت تكرّر عليّ: "يا إمّي ما بتخسر شي، صلّي مرّة أبانا وسلام عن نيّة يوسف بك، سماع منّي". وقابلْتُها كما كلّ مرّة بالاستخفاف وعدم الاهتمام. يومها وأنا عائد في سيّارتي من الجبل إلى بيروت، فكّرت فيما قالته، ووجدت نفسي وحدي، لا أحد يمكن أن يضحك عليّ. إن لم أعثر عليها أنا وحدي أضحك على حالي. صليت الأبانا والسلام عن نيّة يوسف بك، وربما ابتسمت لأنني انصعت لأمي في النهاية ولما أعتبره خرافة. صدّقوني، والله العظيم، وصلت إلى البيت في بيروت، وفتحت باب السيارة لأنزل، حانت منّي التفاتة إلى الجَيْب في الباب، مددت يدي فإذا بي ألتقط المحفظة. لا أعرف ماذا تسمّون ذلك، هل هي الصدفة؟ أم شيء آخر؟ لا أعرف، لكن حدس أمّي وإيمانها صدقا في تلك اللحظة.

وشفاعة يوسف بك ممكنة في كلّ آنٍ، ننزل صيفاً للسباحة في النهر، ويتبارى الأولاد في الغطس من عَلُ في دوّار الماء العميق، ولا نستغرب أن يصيح بعضهم وهو يهمّ بالقفز "عن نيتك يا يوسف بك"! 



تمثاله
طهارته وقداسته حلّت، في وجدان الناس، على كلّ ما يمتّ إليه بصلة، من أماكن ومنازل إلى التمثال والجثمان المسجّى داخل كنيسة مار جرجس في إهدن. ما يزال كبار السنّ يرعون حرمة هذه القداسة، ومنهم تسرّبت القناعة، أو قل الإيمان، إلى عقول وقلوب أجيال جديدة. قد نتفهّم أن يرسم البعض إشارة الصليب في الكنيسة أمام الجثمان، أو على الكتلة تحت التمثال، أو عند المرور بدارة يوسف بك نفسه في زغرتا، أما أن يرسم بعضهم إشارة الصليب، كما عند الأماكن المقدَّسة، عند المرور بمنزل من آلت إليهم الزعامة من آل كرم، وممّن يمتّون بصلة نسبٍ وثيقة إلى البطل، فهذا دليل على مدى ما يكنّونه من تقدير وتعظيم لهذا "القدّيس" وآلِه. لا أنسى، وأنا أتمشّى مع صديق لي، من أتباع كَرَم، وهو يشكل ذراعه اليمنى بذراعي اليسرى، وبمرورنا أمام دارة الوريث السياسيّ، رفع يده، ومعها يدي، بصورة تلقائية لاواعية، ليرسم من فوقها إشارة الصليب فيما هو يكمل كلامه. وإذ فوجئت بحركته ضحك وقال لي: "هيك ربينا". ومن مقاصدنا، زمن المراهقة، تلك الصخرة التي حملت اسمه في جبل سيّدة الحصن في إهدن، لنتأمّل الحلقة المحفورة طبيعيّاً في الصخر ويُقال إنها مربط حصانه، وكان بعضنا مقتنعاً أنّ الآثار المرسومة على أرضيّة الصخرة هي من دعسات حوافر حصانه.

وما زاد من هالة قداسته هو أن جثمانه بقي سليماً بعد وفاته، وقد نقل من إيطاليا وسُجّي في كنيسة مار جرجس في إهدن محفوظاً تحت لوح زجاجيّ، تحت غطاء النعش الذي يُقفَل عليه، يسهر عليه ويهتمّ به قندلفت الكنيسة، وهو من أتباعه المتحمّسين له ومن المؤمنين بقداسته، وهو الذي كان يُستدعى ليفتح الغطاء للسوّاح.

يذكر المحامي يوسف حميد معوّض أنّ جدّته كانت تخبره ما يُرعبه قليلاً وهو ولدٌ. قالت إنّ القندلفت المقيم في جوار الكنيسة، أخبرها ما حدث معه بعد وفاة يوسف بك بحوالى عشر سنوات: "سمعْتُ في إحدى الليالي حرتقة عند الكنيسة، فخرجت أستطلع، ورأيت أحدهم يفتح باب الكنيسة. استغربت، فأنا والمرحوم يوسف بك وحدنا نعرف مخبأ المفتاح. وإذ دخلت الكنيسة فوجئت بيوسف بك نفسه يصلّي..." وأضاف أنّه عند انتهائه من الصلاة كلّمه وحمّله رسالة إلى أبناء البلدة والرعية وزعمائها تتعلّق ببعض التصرّفات التي لم يكن راضياً عنها كونها تتنافى مع ما عمل له هو نفسه. وقد ظلّ هذا الخبر متداولاً في أوساط أهل البلدة، يتّخذونه دليلاً على قداسة البطل التقيّ، من دون التفات إلى ما إذا كانت الوصيّة قد نفِّذت أو لا. إذ يبدو أن النفوس المهيّأة لتقبل فكرة القداسة لا تهتمّ كثيراً لسائر الأمور الدنيويّة. تكفي قصّة الظهور وحسب، وربّما يكون القندلفت أراد إيصال موقفٍ ما، فأتى به على لسان البطل القديس لإكسابه مزيداً من المصداقيّة.

ويبدو أنّ الجثمان حُفِظ من دون مراعاة الشروط اللازمة لحمايته من التلف والتفكّك، ومع ذلك صمد وبقي سليماً ما يزيد عن مائة سنة، إلى أن ظهرت بوادر اهتراء أو تفكّك في الوجه، ما جعل المهتمّين يسارعون، قبل عشر سنوات تقريباً، إلى الاستعانة باختصاصيّين، من إيطاليا، فنقل الجثمان إلى مستشفى سيّدة زغرتا حيث نُظِّف ورُمّمت الأجزاء البسيطة المتضرّرة وأعيد إلى مكانه في إهدن محفوظاً بالطريقة المناسبة... ولا يخفى أنّ بعض المتحمّسين خشوا كثيراً أن يصيب الجثمان أي تلف عند نقله، فظلّوا يتابعون ويسألون إلى أن اطمأنوا عند إعادته، لكنّ منهم من يعبِّر عن استيائه وخشيته من تلف الجثمان لأنّ الهواء سُحِب من النعش وضُخّ فيه غازٌ خاص يحميه ويحفظه. ولا تنقصهم الحجج في ذلك، كأن يؤكّدوا أن الجثمان بحاجة إلى الهواء الطبيعي مثلاً، أو أن العوامل الطبيعيّة (البرد والثلوج شتاءً في الجبل) هي التي حفظته فيجب أن يُترَك للعوامل الطبيعيّة، وليس ذلك من باب مقارعة العلماء والتقنيّين المختصّين، بل من باب الخوف من أن يتسبّب ذلك في إضعاف دعوى تطويبه قدّيساً، إذا ما عُرِف أنّ الجثمان عولِج بموادّ حافظة، ذاك لأنّه بقي سالماً أكثر من مائة سنة من دون تحنيط، وهذا هو المدهش والمُستَغرب وما يُثبِّت مريديه في قناعتهم. أنا نفسي، وكثيرون غيري، كنّا نظنّ أنّه محنَّط إلى أن سمعنا وقرأنا الاختصاصي الإيطالي وهو يشرح كيف أن معظم أعضائه الداخليّة ما تزال سليمة، ومنها الأمعاء والكبد مثلاً. وعند التدقيق تاريخيّاً، يتأكّد الأمر إذ إن أولاد أخيه، عندما علموا بوفاته، راسلوا قنصل لبنان في إيطاليا، وأرسلوا المال اللازم، لتحنيط الجثة. لكن ما بين بلوغ خبر وفاته لبنان، والوقت الذي تستغرقه المراسلات في ذلك الزمن، كانت أشهر طويلة قد مرَّت على الوفاة والدفن، ممّا جعل التحنيط مستحيلاً. هذا الأمر مؤكّد، واللافت في الأمر هو أنّ الجثمان، الذي أخرِج من المدفن وشُحِن إلى لبنان ونُقِل إلى إهدن، وحُفِظ في النعش بطريقة غير ملائمة كما ذُكِر، بقي صامداً كلّ هذا المدة التي تقارب نيِّفاً ومائة عام. فكيف لا يتعزّز عند الناس هذا الإيمان بقداسته؟ خصوصاً إذا ما قورِن بغيره من القدّيسين مثل شربل مثلاً.

بطرس شابٌّ ورِث عن عائلته حبّ البطل والإعجاب بفروسيّته، حفظ أخباره واعتنى بجثمانه، يزوره كلّ أحدٍ خصوصاً في أيّام الصيف، إذ يقصده خصّيصاً من زغرتا إلى إهدن. حبّه وإيمانه بالبطل جعله يتمثَّل به، فأطلق شاربَيْه وفتلهما معقوفَيْن إلى أعلى، ويحلو له امتطاء حصانٍ ورثه عن أبيه، وكلّ ذلك تمثُّلاً بالبطل القدّيس. قصد مرّة عنّايا لزيارة ضريح القديس شربل، ومع الكاهن الذي فتح له الباب ووقف معه أمام الضريح، فتح سيرة يوسف بك كرم، وتناقشا في موضوع سلامة الجثّة. وفي ما يبدو تقليلاً من أهمّية كرم القدسيّة، قال الكاهن: "شربل قدّيس يا ابني"، ما جعل بطرس ينتفض ويردّ بكلّ ثقة: "أنا مش ناطرك لا أنت ولا البطرك ولا البابا تا تقلّي إنّه كرم قدّيس". وهذا ما أكّده سركيس أبوزيد في كتابه عن قداسة كرم إذ قال: " اكتسب يوسف بك كرم في وجدان الناس صفة القدّيس (...) الذي طوّبه الناس قبل أن تطوّبه الكنيسة".

لم يأتِ هذا الإيمان بقداسة يوسف بك من فراغ، فرجل السيف والسياسة كان مؤمناً ملتزماً يؤدّي فروضه الدينيّة يوميّاً وفي المناسبات، ولا شيء، مهما كان خطيراً يتقدَّم عنده على تأدية واجب الصلاة. ويروى أنّه كان في إحدى المرّات يصلّي "المسبحة" للسيّدة العذراء في الكنيسة، وأقبل رجاله يبلغونه أنّ العسكر التركي يهاجم، وبات قريباً جدّاً. فلم يتحرّك من مكانه، ولبث جامداً جاثياً في مكانه إلى أن أتمّ صلاته فخرج يقود رجاله في مواجهة العسكر المهاجم. وما طبّقه على نفسه طبّقه على أتباعه وأبناء بلدته فكان مثالاً لهم في هذا المجال ما سهّل عليه، توجيههم وإلزامهم مراعاة الواجبات الدينيّة والتزام الحشمة، رجالاً ونساء، خصوصاً في بيت الله. وهو الذي أسّس جمعية قلب يسوع في زغرتا-إهدن التي ما تزال عاملة وناشطة حتى يومنا. وهذا الإيمان الصادق هو الذي أملى عليه اعتماد سياسة إنسانيّة عند تعاطيه الشأن العام وتولّيه المسؤوليّات، إذ سعى إلى إحقاق الحقّ وتطبيق العدالة دونما تمييز. وحتى في غربته خصصذ في منزله غرفة أقام فيها مذبحاً واستعان بأحد الكهنة هناك ليقيم القداس وسائر المراسم في المناسبات المعروفة.


جثمان يوسف بك كرم

انخرط كرم باكراً في العمل السياسي-العسكري خصوصاً أنّه ورث العهدة عن والده، وعيِّن حاكماً لإهدن وجوارها، في وقتٍ مبكّر من عمره. يروي الكبار والصغار أنّه دشّن ثورته وهو في السابعة عشرة من عمره، عندما اكتشف أن آغا منطقة الضنّية يضع علامة في شجر المشمش الكثير في حقول المنطقة، والشجرة التي تُعلَّم بحجر لا يقطف أصحابها ثمارها حتى لو هرَّت على الأرض. أزال كرم الحجارة وأمر الأهالي بالقطاف متحدّياً الآغا الذي أدرك أنّه لن يستطيع التصدّي له. وربما شكّلت هذه الحادثة، والظروف السياسية بعدها مدخلاً إلى إقامة علاقات سياسيّة وثيقة، وتحالفاً متيناً لاحقاً، بين خضر آغا زعيم الضنّية ويوسف بك كرم.

لكن أكثر الأخبار المتداولة، التي يطيب للجميع تكرارها، وبشكلها العام، هي التي تتناول تصدّيه لداوود باشا متصرف جبل لبنان المعيّن من السلطنة العثمانيّة. ورواة هذه الأخبار يوظّفونها في حبّ كرم للبنان ودفاعه عنه وعن أبنائه في وجه الحاكم التركي الظالم. كان كرم قد لعب دوراً مهمّاً عندما تولّى منصب وكيل قائمقاميّة جبل لبنان. إذ عمل على إدارة دفّة الحكم بالعدل والحكمة، من دون انحياز إلى أي طرف، وحاول إصلاح ذات البين بين مشايخ الجبل من الإقطاعيّين وبين طانيوس شاهين قائد الثورة عليهم... حتى طانيوس شاهين عاد وجاراه وسار في ركبه بعد خلافات وقعت بينهما، بحسب ما يؤكِّد الباحث والصحافي سركيس أبوزيد. المهمّ أن الفرنسيّين عارضوه، ولم يتجاوب المشايخ معه، كما ظلّ البطريرك بولس مسعد على خلافه وعدائه له، ما اضطره إلى الاستقالة بعد حوالى سبعة أشهر من توليه المنصب، وليبدأ بعدها عهد المتصرفيّة ويتولّى داوود باشا منصب متصرّف جبل لبنان، فيحاول كرم التعاون معه لما فيه مصلحة البلاد والعباد، وعندما لم يجد تجاوباً ثار عليه ووقعت بين قواتهما معارك كثيرة، أهمها معركة بنشعي الشهيرة، ومعركة سبعل وأيطو وعبرا... (وتعتبر معركة بنشعي كبرى المواجهات التي انتصر فيها كرم. ومن هنا يقال إنّ الزعيم سليمان طوني فرنجية اختار بنشعي مقرّاً لسكنه وقيادته لما لها من بعد تاريخي رمزي في نظر أبناء المنطقة، وفي نظره طبعاً).

ولم تنحصر المواجهات في شمال لبنان بل توسّعت لتصل إلى كسروان والمتن ومشارف البقاع... هذه المواجهات اتّخذت أحياناً شكل معارك حقيقة وقعت فيها مواجهة بين جيشين، وأحياناً أشكال مطاردات تلاحق كرم ورجاله الذين يتمكنّون من الإفلات منها بحكم معرفتهم بطبيعة الأرض ومساعدة الأهالي لهم. لكنها تحوّلت على ألسنة الناس، وفي بعض القصائد الحماسيّة ملاحم يفتخر بها الأتباع ويستعيدونها في الملمّات والأزمات.

وهذا ما يهمّنا في هذا السياق، وليس الوقائع التاريخيّة المرويّة في أكثر من مؤلف، بل نتائجها الآنيّة في حينه وانطباعها في نفوس الناس وتحولّها إلى مرويّات تتناقلها الألسنة والذاكرة الشعبيّة لترسّخ أسطورة البطل القدّيس، الفارس الشجاع، المقدام، الذي لا يهاب الموت، المحبّ لشعبه والمدافع عنه في أحلك الظروف. يُروون مثلاً أن حاكم طرابلس العثماني خصّص مكافأة لمن يقبض على كرم ويسلّمه إلى السلطات، فما كان من البطل إلا أن قصد الحاكم بنفسه، مبدياً استعداده لتسليم نفسه مقابل أن تخصّص المكافأة لمساعدة الشعب المحتاج. وقد أكّد للحاكم أنه ليس خارجاً على القانون وكل ما يرديه هو مساعدة شعبه وإحقاق العدالة، وهذا ما أثار إعجاب الحاكم بهذه الفروسيّة وجعله يعفو عنه. وفي هذا مصداقٌ للشعار الذي رفعه وطبَّقه حتى آخر عمره " فَلأُضَحَّ أنا وليعِش لبنان"، وقد نُحِت على رخامة مزروعة على قاعدة تمثاله في إهدن. 

(*) هنا جزء أول من مقالة طويلة عن ظاهرة يوسف بك كرم ومعناها الاجتماعي في زغرتا، غداً الجزء الثاني...

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها