الأربعاء 2022/01/26

آخر تحديث: 16:51 (بيروت)

لماذا يجب الابتعاد عن نافذة فينوس خوري غاتا؟

الأربعاء 2022/01/26
لماذا يجب الابتعاد عن نافذة فينوس خوري غاتا؟
هي نافذة مفتوحة على آخر ما تبقى من وقت للعيش
increase حجم الخط decrease
تدعو فينوس خوري غاتا، وعلى سبيل المطالبة، إلى الابتعاد من أمام نافذتها. تفعل ذلك في مجموعتها الشعرية الأخيرة، التي يصح القول إنها تدور، ومن عنوانها الى نهايتها، حول تلك الدعوة، ما يحض على الاستفهام عن علتها: لماذا يجب الابتعاد عن النافذة؟ فعلياً، لا بد من الإشارة أولاً الى أن هذه النافذة، ومثلما تشير اليها الشاعرة في قصيدةٍ أهدتها الى الكاتب جان ماري لو كليزيو، هي نافذة مفتوحة على آخر ما تبقى، من وقت للعيش، ربما، لكن، قبل كل شيء، من العالم، الذي تكتب خوري غاتا نهايته. فهل هناك ما يفيد بهذه النهاية أكثر من النظر الى السماء، ومشاهدة أنها من كرتون، أو الى الغيوم، ومشاهدة أنها ديكور لمسرح متنقل؟

لكن، مقابل هذه النهاية، لا تمضي خوري غاتا، بما هي شاعرة بها، إلى الاستسلام للمصير الذي تقيدها به، أو الذي تفرضه عليها، إنما، وعلى العكس، تحاول ابعادها عنها: تبعد النهاية عنها، لا بحثاً عن بداية، إنما حباً بما تبقى. من هنا، النافذة هي صلة وصل مع المتبقي، ومن هنا أيضاً، سد النافذة بالوقوف قدامها هو محو لهذا المتبقي، أو إطاحة الطريق صوبه.

"انتظروا\لا ترحلوا من دوني\لا تسحبوا الأرض من تحت أقدامي"، تكتب خوري غاتا. فصحيح أن الجلوس أمام النافذة في حين فتحها يحقق الاتصال بالمتبقي من العالم، الا أنه لا يستوي على كونه كذلك من دون صحبة. في الواقع، ثمة ما يعبر كل قصائد خوري غاتا هو إحساس ما بالوحشة، أو بالعزلة، التي تبرز كموضوع للتخفيف، بالمشاهدة، اي مشاهدة السماء والغيوم مثلما سلف الذكر، او بالكتب، او بالحطب، او ببعض الانارة، او بباقات الورد، ودوماً، بالحجارة. فالحجارة تحضر في قصائد خوري غاتا كأنها غرض القصائد، إذا صح التعبير، الذي يكفل العلاقة بين، المكان من جهة- وهو، في الكثير من الأحيان، مكان مقفل- ومن جهة اخرى، الطبيعة، بما هي قادرة على تبديله، وتحديداً، على كسر وحشته أو عزلته. فتبدو الحجارة أنها، وبصريرها، وبتغذيتها حركة الحشرات حولها، وبحمل الموتى لها في أيديهم، وبتقشير الأرض بها، تصرف ذلك المكان من فراغه الثقيل، بلا أن تطيح به بالطبع، بل لكيلا يكون على نهايته بالكامل. الحجارة هي غرض القصائد مثلما أنها المادة المتبقية من عالمٍ، أخذت نهايته شكل تبخره، أو، ولاستعمال عبارة من قاموس بلزاك: انقضاء وهمه.

على أن تخفيف الوحشة أو العزلة بما تبقى وخلاله لا يتعلق بغياب الصحبة فحسب، إنما، وايضا، بشيء ما، تقدمه خوري غاتا في مطلع مجموعتها حتى خاتمتها، أي الانتظار، "تعرف أنك في مكان مؤلف من بسائط مركبة فوق بعضها البعض\أن ألمك منه ليس ألماً مفرداً\ أن جمودك ليس كسلاً إنما انتظاراً لحدث\تبحث عن شق لتدفن القليل الذي هو أنت". هذا البحث في حين انتظار الحدث، الذي قد يكون الموت، والذي لا يحصل رغم أنه سيحصل في لحظة ما، هذا البحث يسنده نوع من الكبرياء. إذ إن المنتظر يزاول ترقبه من دون "مساعدة" ومن دون "عزاء"، لا سيما أنه، وفي ترقبه الحدث، يستمع الى ما قالته احدى المسنّات، التي، وبحسب وصف الشاعرة لها، تجلس على حافة المطبخ، وتنزع الريش عن الطائر قبل أن تمسح وجهها بردائها المبلل بالدم: "نحيا مما لا يقدر الموت عليه".

وعندما يأخذ المنتظر بما تقوله المسنة، اي بكون الحياة تستلزم ألا يقدر الموت على قليل منها، يمضي الى الانغماس في المتبقي من العالم حوله، مترقباً أمام النافذة، التي تبقى مفتوحة. أما، وحين يزول كلام المسنّة من خاطره، وتقفل النافذة أمامه، فعندها، يدير ظهره الى الحائط، يتفرس في عظام من شظايا وذكريات متواترة بلا توقف، كما لو أنه لا يموت ولا يحيا، إنما "يملأ الفراغ بفراغ مضغوط أكثر\ يثير البرد بأيدي عارية بلا أن يحرقها\يبعد الدخان بالصراخ عليه". وهذا، قبل ان يترك المتبقي من العالم بلا أن يلتحق بنهايته: يلازم الهباء أو يعشق العبث!
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها