الأحد 2022/01/02

آخر تحديث: 06:42 (بيروت)

لا أحد يسأل عن بول بولز في طنجة

الأحد 2022/01/02
increase حجم الخط decrease
لا يتوقف كتاب عرب وعالميون عن الافتتان بمدينة طنجة المغربية "الدولية" أو الكتابة عنها أو من خلالها، إلى حد أن المسرحي صمويل بيكيت يقول عنها إنها إحدى المدن القليلة التي يمكن أن نمارس فيها الكتابة. وكونها أقرب نقطة في أفريقيا من أوروبا تنعت بـ"المدينة ذات البحرين" التي تكاد لا تغيب الشمس عنها صيفاً، وبهذا كانت الكاتبة الأميركية غيرترود شتاين تغري الكاتب الأميركي بول بولز لحضّه على زيارة طنجة، وهو الإغراء الذي سرعان ما استمال بولز وطاب له المقام في المدينة وأصبح "الوصي" الأكبر على من يفد عليها من الأميركيين وأحياناً على آخرين فهو شجّع الكتاب والمشاهير على زيارتها والإقامة فيها، ووصفها بـ"المدينة الحلم"... وروايته، "دعه يسقط"  تدور في منطقة طنجة، حيث يحاول الأميركي نيلسون داير بدء حياة جديدة، تستمد تسميتها من جملة من مسرحية "ماكبث"، تعرض الرواية تفاصيل المغامرات التي قام بها داير، والتي تؤدي به إلى طريق التدمير الذاتي. وكتب بولز عن طنجة في روايته "شاي في الصحراء" التي حط فيها مباشرة بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، ثلاثة شبان ذوو ثراء ووسامة بحثا عن المشاعر والانفعالات القوية. 
  
يقول الباحث الإيطالي فاليريو فيتوريني "كانت طنجة التي مثلت دوما ومنذ قرون المدينة الأكثر انفتاحا بفضل طابعها الدولي، الذي كرسته معاهدة باريس عام 1923 والتمثيليات والبعثات الدبلوماسية التي تعاقبت منذ عقود عدة"، وقد "أقام فيها أوجين دولاكروا وهنري ماتيس وفرنسيس بيكون وألكسندر دوما ومارك توين وبيير لوتي وهنري دو مونتيرلان وبول موران وألبرتو مورافيا وبيير باولو بازوليني وجوزيف برودسكي وصمويل بيكيت وجان جينيه ورولان بارت"، و"كانت المدينة في النهاية ملاذا لجأت إليه نخبة من ألمع كتاب جيل البيت الأميركي: بول بولز وزوجته، ترومان كابوت، غور فيدال ووليامز بوروز وجاك كيرواك. لم تكن علاقة هؤلاء الكتاب بطنجة خالية من تأثير سوء التفاهم".  
 
لا شك في أن الحكايات والكتابات عن طنجة كثيرة وتحتاج الى كتب كثيرة. من حكاية تينيسي وليامز، الهارب من ماضيه، الى سرد خوان غويتسيللو الى رولان بارت الذي سمّى طنجة "المدينة الهيبية" وقبلهم جميعا كان على الرسام الفرنسي ماتيس أن يسافر على متن باخرة الى هذه المدينة التي أضحت أحد مصادر الوحي والإلهام لديه لسنوات كثيرة. أيضاً الكاتب الأميركي براين غيسن الذي وإن غادر طنجة مكرها بسبب مرضه المزمن، فإن أخته الروحية آن كومين فيليستي حملت معها رماده في قارورات صغيرة ونثرته بين صخور "مغارات هرقل" في طنجة وساحة "جامع الفنا". في حين أن والتر هاريز، مراسل جريدة "التايمز" اللندنية، الذي توفي في مالطا أوصى بأن يدفن في طنجة، كذلك الكاتب الفرنسي جان جينيه الذي ارتبط اسمه بالمدينة فأوصى بأن يدفن في العرائش المغربية غير البعيدة كثيرا عن طنجة. أما الكاتب المغربي محمد شكري فهو واحد من أكثر المؤلفين شهرة في علاقته بطنجة وكتابها. وأصدر الروائي الطاهر بن جلون رواية "أن ترحل"، يرصد تمزّق المغاربة بين حبّهم للمغرب ورغبتهم في مغادرته. فالشباب المغاربة، كما الأفارقة الذين يأتون الى طنجة، وبسبب إصرارهم المتهور على الوصول الى الضفة الأخرى (اسبانيا) يقعون فريسة المهرّبين والغرق في البحر، وأنجز الكاتب عبد الإله الحمدوشي روايته "الذبابة البيضاء"، التي من خلالها كان المحقق العفريت يحقق في العديد من الجثث التي جرفتها الأمواج وطوحت بها على شواطئ طنجة. هكذا حلم الرحيل عبر طنجة إلى اوروبا يقابله حلم الأدباء والكتاب والشعراء والرسامين لزيارة المدينة. إلى جانب شكري وبن جلون قام كتاب وباحثون مغاربة آخرون ببلورة جوانب من التاريخ الثقافي والاجتماعي والأسطوري والرمزي لهذه المدينة عبر بعض رموزها الأساسية. وقبل مدة قصيرة صدرت روايات مثل "كافكا في طنجة" للكاتب المغربي محمد سعيد احجيوج، تعبير سردي عن التشوه الذي طال طنجة باستدعاء اجواء رواية المسخ لكافكا، و"معجم طنجة" لمحمود عبد الغني او "غيرترود" لحسن نجمي والتي تستدعي شخصية غرترود شتين التي عاشت زمنا طويلا في طنجة. والسؤال ماذا بقي من طنجة التعدّديّة التي سحرت الأدباء والشعراء والأجانب؟ ولماذا كان الاقبال الثقافي على المدينة؟ ولماذا فتن بول بولز بالمدينة، وما علاقته بالموسيقى المغربية؟ وهل أخذ محمد شكري أكثر من حقه؟ أسئلة طرحناها على الكاتب والمترجم المغربي عبد المنعم الشنتوف، الذي كتب وترجم ونشر عشرات المقالات عن المدينة ونجومها... هنا حلقة أولى...

____
لم يبق شيء يذكر من ظاهرة المقاهي الثقافية في طنجة تحديداً. وثمة استثناء لا يقاس عليه ويتمثّل في المقهى التابع للمركز السينمائي "الريف" في طنجة، الذي يجلس فيه بعض عشاق السينما تحديداً. طغتْ عزلة المثقفين خصوصاً بعد استفحال حضور وسائط التواصل الاجتماعي. أتذكّر في التسعينيات من القرن الماضي اننا كنا نجلس في مقهى "حانة البريد"، التي كان يفضلها الكاتب المغربي الراحل محمد شكري. لكن ذلك الزمن في طنجة ولى إلى غير رجعة. بيد أن ظاهرة المقاهي الثقافية ما زالت محتفظة بحضورها في العاصمة الرباط والدار البيضاء.

  في طنجة الآن، بل منذ مدة، لا أحد من المغاربة يبحث أو يسأل عن بول بولز أو رموز "جيل البيت/ البينز" الاميركي (جاك كيرواك، بوروز، غينسبرغ) باستثناء الزوار الاوروبيين والاميركيين العابرين. بولز الذي رأى النور في نيويورك عام 1910 وتوفي في طنجة عام 1999، أقام في طنجة قرابة ستين عاما. مثّل محطة رئيسية في التاريخ الثقافي للمغرب الحديث باعتباره شاهدا على التحولات التي عرفها، قبيل وبعد الاستقلال، وإسهامه الإثنوغرافي الدال في توثيق الموسيقى الشعبية ونقل الموروث الحكائي المغربي من الشفهية إلى الكتابة.
بولز نفسه أوصى بأن ينقل جثمانه وأرشيف وثائقه ومكتبته الى مسقط رأسه في نيويورك. وقد أسر إلى أخلص مقربيه بأنه لا يثق في المغاربة، ليس بسبب كراهية أو عنصرية وإنما لاحساسه بمشاعر التحفظ والبرودة حياله بسبب مثليته الجنسية. كل من سألتهم من سكان طنجة، تحديداً ومن الجوار المحيط بمنزل بولز الذي أقام به قرابة ستين عاماً، يحتفظون بمشاعر تحفظ وما يشبه الاحتقار بسبب هذه المثلية الجنسية، والشأن نفسه بالنسبة لرموز "جيل البيت"، أقصد تحديداً وليام بوروز وبيتر أورلوفسكي وآلن غينسبيرغ.

 ليس ثمة شارع أو زقاق أو ساحة، تحمل اسم بولز رغم الخدمة الكبيرة التي أسداها للثقافة المغربية. وقد نشرتُ دراسة طويلة في هذا الصدد مؤخراً، أتحدّث عن الحكواتيين وأخرهم محمد المرابط. هذا الرجل استفاد من علاقته ببول بولز، وإن كان لا يدخر جهداً في الاساءة إليه واتهامه ورموز جيل البيت بالشذوذ الجنسي. وقد افصح عن ذلك في حواره المنشور في موقع ايلاف مع الشاعر المغربي الراحل منير بولعيش. يتنكر محمد المرابط لكل مدرسة حتى لعرّابه بول بولز. يرد المرابط على Lamarea إحدى الصحف الاسبانية عندما سئل عن تلك الصداقة التي ربطته ببول بولز: "أنا اشتغلت عند بولز ولم أكن صديقًا له. أكره بول بولز. إنه قطعة من القرف لم يكن بولز حتى كاتبًا. كان موسيقيًا وليس كاتبًا. آخر الكتب التي كتبها كانت قصصي. سرق مني مئات القصص. ومن الكتب التي وقعناها معًا، لم أتلق قرشًا. استحوذ بولز على كل شيء. لقد دمر حياتي".

لا يمكن فصل اقبال الكتاب والشعراء على طنجة عن التيار الثقافي الذي هيمن على الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية، الذي اتّسم برفضه لاهوال الحرب المجتمع الاميركي. لا يمكن اختزال هذا التوافد الهائل على طنجة في مجرد اشباع الرغبة الجنسية او المخدرات وانما ينبغي ايلاء الاهمية لعوامل لها تعلق برفض كل ما يمتّ بصلة للاعراف والتقاليد السائدة داخل المجتمع الاميركي. كان لبول بولز على سبيل التمثيل، حنين غريب للمغرب ما قبل الاستقلال عن الاستعمار الفرنسي بسبب رفضه لهيمنة التقاليد الغربية على المجتمع المغربي. المثلية الجنسية بدورها كانت تعبيراً عن رفض الزواج التقليدي بين رجل وامرأة. كان حضور "جيل البيت/ البيتز" عابرا ودون تأثير يذكر في السياق المغربي، بفعل قوّة التقليد المغربي وسطوة المعايير والقيم المناهضة لما كان يطمح إليه رموز هذا الجيل. وكانتْ عزلتهم داخل السياق المغربي المحافظ محصلة طبيعية. وقد أشار الكاتب والأكاديمي الاميركي ستيوارت سكار في النص الذي قمتُ بترجمته عن الاصل الانكليزي ونشرته موخرا.
يتبع
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها