السبت 2022/01/15

آخر تحديث: 18:34 (بيروت)

حين يصبح المتشرّد صورة

السبت 2022/01/15
حين يصبح المتشرّد صورة
increase حجم الخط decrease
يقف المرء حائراً أمام ذلك الرجل المتشرّد تحت "جسر الفيات"، في منطقة كورنيش النهر في بيروت. يعيش بين كتبه القديمة وكراكيبه، يضع فرشة عند عمود الجسر وبعض الاخشاب على شكل غرفة، وتحيطه الكتب وبعض الثياب القديمة والأحذية والكلب الذي ينام صامتاً على بعد أمتار.. هل نكتب عن علاقة ذلك الرجل بالكتب والقراءة أم عن سيرته وتشرّده، أم عن صوره الكثيرة التي نشرت في فايسبوك بكاميرا مصورين يجوبون المدينة بحثاً عن "سكوب"، أم عن الفيديوهات التي تحدث فيها عن مشكلته وأولاده، أم عن المقالات المكررة من جريدة إلى أخرى، أم عن وزير الثقافة محمد مرتضى الذي زاره برفقة الكاميرا واستمع إليه وقدّم له مجموعة كتب، ووعدة بالمساعدة؟ هل يحتاج المتشرّد إلى كتب أم إلى عمل ومأوى أو بيت؟

بالطبع هناك عشرات المشردّين في طول البلاد وعرضها، خصوصاً إثر الانهيار الاقتصادي والمالي وأرقام وزارة الشؤون الاجتماعية مخيفة في هذا الإطار... صار التشرّد والفقر من علامات اللبنانيين، حتى الطبقة الوسطى منهم، لكن ما حصل بالنسبة إلى متشرد "جسر الفيات"، هو أنّ أن بعض الاعلام وجد في الكتب فانتازماً خاصاً للمشهد والصورة و"التريند"... متشرّد ويقرأ... يا للذهول؟! كأن اهل الثقافة أو الذين يقرأون في مخيلة بعض الإعلام دائماً في برج عاجي، ولا يبرحونه ولا يتشرّدون، ولا يعيشون الفقر... لا ضرورة لذكر تجارب التشرّد بين الشعراء والفلاسفة والكتاب، فهي كثيرة، وهذا ليس موضوعنا...

الفكرة هي التوهم الميديائي بأن متشرداً في لبنان، يقرأ، فلا بدّ أن تكون حوله "أسطورة" ما، وهذا ما بدا من الكتابات التي تطرقتً إلى متشرّد جسر الفيات، ونسجتْ حكايته وصعوده ونزوله... بالطبع هذه ليست المرة الأولى التي يندفع فيها الإعلام الى تسليط الضوء على فانتازم الكتب مع المشرّدين. في زمن غابر لطالما تحدث الاعلام عن المتشرد علي العبدالله في شارع بلس، قالوا إنه مثقف وعارف باللغات وعالم بالرياضيات، قبل ان يموت في ليلة وعاصفة من البرد الصقيع. حيكت أساطير حول أصله وفصله، وعن علاقته بالثقافة واللغة والعلم، وفي النهاية خطفه البرد...أيضاً، كانت هناك المتشردة ميريام في شارع بلس أيضاً، وكانت تقرا كتباً بالانكليزية، واختفت. بعد ساعات على انتشار صور متشرد جسر الفيات، نشر أحد المثقفين صورة لولد داخل مستوعب نفايات، يحمل كتاباً ويقرأ، وهو بالتأكيد كان يبحث عن خردة لبيعها ووجد الكتاب، فحمله ليقرأ، وسارع أصحاب الفضول إلاى نشر صورته في فايسبوك كدلالة على الواقع المأسوي للبنان...

بالمختصر، حين ذهبت لرؤية كتب الرجل المتشرّد الذي قيل "إنه كان مهندساً" قبل أن تبرم الأيام معه ويحط رحاله تحت الجسر، كان لدي دافع أن أجد بعض المجلات القديمة أو النادرة التي تستهويني، أو طبعات قديمة لكتب لم تعد متوافرة في المكتبات. في ذلك الوقت الماطر، نزلت الى بيروت، ركنت سيارتي عند جسر الفيات، ونزلت متوهماً بأني قد أجد شيئاً أحبه، تأملت الكتب والعناوين، فخاب ظني بعد الجولة الأولى، كتب وكتيبات دينية، كتب مدرسية، أحياناً معاجم بلا غلاف أو منشورات أرمنية أو أفلام لم أحاول قراءة عناوينها، وبعض القصاقيص من هنا وهناك. ويتضح أنها من مقتنيات أناس ليست لديهم مكتبة، وهناك رزم لبعض الكتب الجديدة، لا أدري إن كان أصحابها قد تبرعوا بها.. بحثت قليلاً علني أجد شيئاً، فسارع الرجل إلى إعلان تململه. قال إن المطر خرب بيته اليوم، ولا يريد أن يبيع الكتب. سأله شاب آخر عن الأسعار، فقال "الوقت شتاء اليوم". قلت سأشتري كتاباً أو كتابين من باب دعم هذا المتشرّد، فانتقيت مجلة واحدة (مستوحدة) من مجلة "الفكر العربي"، ونسخة بالية وهي ترجمة للانجيل، وسألت الرجل، فقال إنه لا يريد أن يبيع. شعرت بالاحراج. سألته عن مجلات قديمة، فقال "توجد مجلات بوردا"، المتخصصة في عالم الخياطة... كررت السؤال كم ثمن المجلة التي أنتقيها، قال "الوقت شتاء الآن". فكرت قليلاً ومشيت...

لم أجرب ان أسأله عن أصله وفصله وما الذي دفع به إلى هذا المكان، لم أكن ذاهباً بصفة صحافية ولم أكن أريد الكتابة عنه. لكن، في اليوم التالي، قال لي أحد الأصدقاء إنه مشهد سريالي، وزير الثقافة يوقع كتاباً للمتشردّ تحت جسر الفيات. قد يكون الوزير "إيجابياً" ويساعده (العلم في الغيب)، لكن مختصر لقطات الوزير، تشير إلى بروباغندا ما... عساه خيراً.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها