الجمعة 2022/01/14

آخر تحديث: 13:37 (بيروت)

"لا تنظر إلى الأعلى"... ففي أي اتجاه ننظر؟

الجمعة 2022/01/14
"لا تنظر إلى الأعلى"... ففي أي اتجاه ننظر؟
أحجية المؤسسات الثلاث: السياسية، الإعلامية، والأكاديمية
increase حجم الخط decrease
يكتفي فيلم (لا تنظر إلى الأعلى Don't Look Up، إخراج آدم مكاي) بطرح الكثير من الأسئلة والإشكاليات المفتوحة، والتي لا يجيب عن أي منها بشكل وافٍ. وهو يطرح في آخره، وبعد مرور أسماء المشتركين في العمل، نهاية كلاسيكية خلاصية لم يستطع العقل البشري عمومًا، وعقل المخرج والكاتب، تخطيها. من دون أن نغفل أنها، لربما المرة الأولى التي ينتهي فيها العالم، يتعرض للدمار الشامل، في فيلم ما، حيث يرتطم المذنّب بالكرة الأرضية، وذلك على خلاف كافة المحاولات الأميركية الخلاصية المستمرة التي تتبدى حين يستطيع أحدهم، مخلّص ما، ابعاد كأس النهايات عن النوع البشري.

لقد عادتْ اللحظة الخلاصية فظهرتْ في هذا الفيلم على شكل بقاء أحدهم حيًا، بما معناه أنه خلاص متأخر إلى ما بعد اللحظة الأخيرة وتحقق النهاية. وهو ما يوحي وكأنها بداية جديدة. فهل بقي ابن الرئيسة الأميركية وحده بعد فناء الكوكب؟ هلى نجا أحد ما غيره (يفضّل أن تكون امرأة) ليبقى النوع، فتكتمل شروط القراءات التفاؤلية الايجابوية، التي هيمنت على امتداد تاريخ الثقافات البشرية؟

هذه الأسئلة التي تُطلق على الفيلم مباشرة، أما في شكل غير المباشر، فالسؤال هو: جديًا، في أي اتجاه ننظر؟ فإذا نظرنا إلى الاعلى سنشاهد المذنّب من دون أي قدرة على تغيير حتمية ارتطامه؛ وإذا لم ننظر إلى الأعلى، لن نستطيع تغيير هذه النتيجة، لكن سيضاف إليها نتيجة أخرى قائمة على فكرة أننا سنموت بلا مشاهدة. فما العمل هنا؟ ما قيمة النظر في هذه الأحجية؟

يتمحور الفيلم حول فكرة المصيدة - الفخ، المتبدية في الحلقة المفرغة الناجمة عن عدم القدرة على الاتيان بأي حركة، وأي فعل، بأي اتجاه كان. فالفيلم هو تكثيف لرواية الأسر داخل ثلاثة أنماط مؤسساتية مهيمنة على المشهد، وتعكس توجهين وسلوكين:

1- مؤسستان تنظران إلى الأسفل، بعين المصلحة الضيقة، ويسيطر على رؤيتيهما الخفة واللامسؤولية والكثير من البديهيات، فتشيحان نظرهما عن الخطر الحقيقي تجاه أهداف فرعية وأقل ضرورة في لحظة الخطر العظيم. سواء من ناحية المؤسسة السياسية التي تكثف نظرتها باتجاه معيار أوحد، وهو تحقيق بعض المكاسب في النظر إلى إشكاليات السلطة وضروريات الهيمنة الصغيرة والفرعية والسطحية أمام هكذا حدث (أليست السياسة هي كذلك بالتعريف؟). والمؤسسة الإعلامية الملحقة بالمؤسسة السياسية، التي تمعن في تكريس توجه السلطة، فتصب جلّ اهتمامها في تشتيت تركيز الناس المعنيين، وتحويله ناحية البحث عن سكوب ورايتينغ، على الرغم من خطورة اللحظة، ومن جلل الحدث.

2- المؤسسة الثالثة، أي الاكاديمية، التي تنظر إلى الأعلى، فتضيء على المشكلة، لكنها اضاءة عقيمة لا تستطيع تخطي حقيقة وقوفها على مستوى الملاحظة دون القدرة على ترجمتها في سلوك عملاني، ولا على اتخاذ اي خطوة متقدّمة في هذا الاتجاه. بما يعني قصورها عن تأدية أي من الأدوار الرئيسة في أي منظومة، لا بل تبدي انتهازيتها في التحاقها بالسلطة حين يمكنها ذلك، او تبدي الهيمنة العبثية عليها في حال ذهبت إلى أقصى حالاتها الراديكالية. أما في الخارج، فهناك مجتمع يعيش على مشاهدة ما تقدمه المؤسستان المهيمنتان (السياسية والاعلامية)، ظلال الأمور كما في أسطورة الكهف بنسختها الأفلاطونية. وما يعزز هذه القراءة هو جدل الأعلى والأسفل: الجدل الأعلى عند أفلاطون، أي الارتفاع إلى التفكير في الحقيقة من خلال التفكير بالتصورات وصولًا إلى المثل، والجدل الأسفل بالعودة إلى المصاديق الواقعية لرؤية مدى قربها وبُعدها من تلك المثل.

وما يكرس هذا التعزيز هو إفلات احد الجماهير من قوالب وأغلال السلطة (الفيلسوف في رواية أفلاطون)، والتفاته إلى الأعلى (الخلف عند افلاطون) ليرى الأمر على حقيقته، بعد أن يشيح نظره عن الظلال التي تمحور السلطة خطابها الكاذب حولها (في الفيلم، هو أول من ينظر إلى الأعلى في لحظة تجمهر الناس للاستماع إلى نجل الرئيسة الأميركية، فيرى أن المذنّب قد دخل المجال الجوي فعلًا، وأن السلطة السياسية التي تأمر الناس بعدم النظر إلى الاعلى تكذب). لكن المشكلة هي أن النفس الخلاصي هذا، في هذه الجزئية، هو نفس لا يقدّم ولا يؤخّر أيضًا، لا يستطيع تسجيل أي انتصار، ولو وهمي، ولو جزئي، في هذه المعركة. ففي أسطورة أفلاطون يتأسس الخير على تطابق المعرفة والسلطة في شخص هو الفيلسوف، أما في الفيلم فالمعرفة والسياسية على نقيضين لا يلتقيان إلا حين الحاجة، حاجة السلطة بكل تأكيد.

فأين ننظر إن كان الأعلى صادقًا لكنه مرعب، وإن كان الأسفل مبهجًا لكنه مزيَّف؟
لربما أجاب سقراط في غابر الأزمنة عن مثل هذا السؤال، حيث أعاد موضعته بطريقة مغايرة، فكانت النتيجة هي أن ننظر إلى الداخل، إلى أنفسنا. انطلاقًا من المقولة الشهيرة لعرافة معبد دلفي: اعرف نفسك بنفسك. لربما هذه الاجابة هي التي تتماهى مع الإجابة الاخلاقوية التي طرحها الفيلم في نهايته ما قبل الرسمية الخلاصية، سواء لناحية العودة إلى الدين، أو تحقيق القيم، أو لناحية التماسك الأسري في العشاء الأخير. 

إلا أن الأحجية تبقى على حالها مرة جديدة، أين ننظر فعليًا؟ لا بل تتقدّم إلى الأمام لتصبح أكثر إلحاحًا: هل هناك من مكان ننظر إليه؟ أو هل من المفترض أن ننظر في اتجاه ما، على اعتبار أنه المنظور الذي يحمل، بشكل من الأشكال، الخلاص؟

والنفس الخلاصي في هذه الحالة يفتح سؤال الواقعية، أيضًا وأيضًا. فهل يبقى الشيء على حاله إذا قررنا إشاحة النظر عنه، بما يعني بقاء خطر المذنّب قائمًا؟ أم ينتهي، بلاحتمية مطلقة، كأن يختفي ويزول، لأن شرط شروط الشيء هو ملاحظته؟

هنا يأتي دور التكنولوجيا التي لم تحقق إلا هدف ردف السلطة بإمكانات السيطرة، السيطرة المضاعفة، على المواضيع، على الطبيعة، على الإنسان، سيطرة على ما في الأرض وما سيأتي من السماء، بهدف الاستفادة منه ولو كان خطرًا داهمًا سيؤدي إلى هلاك. فالتكنولوجيا سقطت أمام هدفها أيضًا، ولم تستطع تحقيق سوى مخرج واحد، ارتبط بمجموعة محدّدة من الناس، لكنه بقي مخرجًا مؤقتًا سقط أمام المجهول، كما سقط في السابق أمام غاية التحرير التي وجِدت من أجلها؟ ما يعني في الفيلم، مرة جديدة، سقوط الإجابة، وعدم قدرة النهاية على تحقيق نهايتها.

هذه وغيرها من الأسئلة المفتوحة التي يطرحها الفيلم من دون أي اجابة منتهية، وفي هكذا انسداد لربما ينبغي تغيير السؤال، كأن يصبح: لماذا ثمة إجابة؟ أو لعلنا نطرح السؤال الخاطئ، بحيث يتوجب العودة قليلًا إلى الخلف، إلى السؤال حول سبب الخلاص وجدواه، فيكون العبث سيد الموقف، عبث يحتم أن ينهي عبث الإنسان في هذا الكون، عبث على شكل أحجية، عبث على شكل نهاية مغلقة يصل الفيلم والمشاهد والإنسان إليها، وهي المصيدة التي تغلق على رقبته كجرذ دخيل في المكان.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها