الأربعاء 2022/01/12

آخر تحديث: 13:42 (بيروت)

طنجة... أطلال مكتبة الأعمدة وزوال "الحائك"(3)

الأربعاء 2022/01/12
increase حجم الخط decrease
بعد الحلقة الأولى "لا أحد يسأل عن بول بولز في طنجة" والثانية "طنجة لم تعد كوزموبوليتية.. ومقهى المثقفين أكله ماكدونالدز"، هنا الحلقة الثالثة عن مكتبة الأعمدة في طنجة.

الحديث عن مدينة طنجة متشعب ومتعدّد ويشبه حكايات ألف ليلة وليلة... كنا في طور الإعداد لفقرة أو مقالة عن الروائي بول بولز، ودوره في حماية موسيقى طنجة من التلاشي أو الاندثار، من خلال تسجيلها وحفظها في مكتبة الكونغرس الاميركية، فدخلنا في باب آخر لم يكن في البال. فقد نشر القاص الزميل، عبد المنعم الشنتوف، صورة (مرفقة مع النص) في فايسبوكه، فلفتت انتباهنا نساء يرتدين النقاب الأبيض، وكان السؤال ما هذه الصورة؟ فكان رده أنها "تعود الى خمسينيات القرن الماضي بجوار مكتبة "الأعمدة" الشهيرة التي كانت تديرها راحيل مويال، ومن قبلها الزوج المثلي جيروفي، وهما من بلجيكا. ويبدو أن هاته الكوكبة من البشر كانت تحتمي من المطر. هي صورة تكثف هذا الطابع الكوزموبوليتي الانفتاحي لطنجة في عهدها الذهبي، هذا اللباس النسائي كان يسمى في المغرب قديماً "الحائك" وقد انقرض الآن، ويعود تاريخه الى ما يزيد عن ألف سنة حسب بعض الروايات، وكان مشهوراً بشكل حصري في شمال المغرب، وهو أندلسي الأصل. ثمة لوحة شهيرة للرسام البلجيكي يان بورتايلس، وقد خلّد بها شابة طنجاوية بلباس الحائك العام 1870"...

لم يكن عبد المنعم يهدف من الصورة إلى التركيز على اللواتي يرتدين "الحائك"، بل المكتبة، التي، حسبما أفادنا، موجودة لكنها "شأن المدينة، في حالة تدهور لا توصف. انحسر العهد الذهبي ولم يعد ثمة من يتردّد عليها لاقتناء جديد الكتب، إذ لا أحد يقرأ. وهناك أيضاً تعاقب ملاّك المكتبة وخصوصاً المغاربة، والذي عجل في تحولها المأساوي إلى مجرد أطلال. وقد سمعت موخراً بأنها تتحوّل الى مجرد ورافة، أي متجر لبيع الأدوات والكتب المدرسية. وهذا مظهر آخر لانحسار وتلاشي البُعد الكوسموبوليتي لطنجة".

بمعنى آخر تشبه المكتبة الشهيرة مقهى "برات" الذي تحول مطعماً للوجبات السريعة. باتت حكاية، ملأى بالتشعبات، وتعدّ معلماً بارزاً من معالم المدينة، في علاقتها بالذاكرة والمثقفين والرحالة والشعراء، في المقام الأول، والانتلجنسيا (النخبة) الثقافية المغربية.

كانت "الأعمدة" تبيع كتباً منوعة، فرنسية وإسبانية وإنكليزية وإيطالية بالإضافة الى العربية. هذه المكتبة، التي تأسست سنة 1949، وكانت بمثابة فرع سابق لدار النشر الباريسية غاليمار. وقد تناوبت على إدارتها مجموعة من المدراء، واستضافت العديد من الأدباء البارزين، منهم  صامويل بكيت، جان جينيه، بول بولز، جون هوبكنز غافن يونغ، غافن لامبرت، كلاوديو برافو... وكانت تحتضن حفلات توقيع جديد الكتب، وقد وقع فيها محمد شكري، والطاهر بن جلون، ومحمد برادة، وإدريس الشرايبي. كما كانت بمثابة ناد يلتقي فيه الكتّاب الأجانب المشاهير.

تولت إدارتها سنة 1975 راحيل مويال، واستمرت 25 سنة..  وراحيل، بحسب المعلومات، يهودية من مواليد طنجة، ولدت في السنة نفسها التي تولى فيها هتلر السلطة (1933)، والنافل أنه نتيجة موجة القمع التي تعرض لها اليهود في أوروبا على أيدي الألمان، ستصبح طنجة ملجأ مئات اليهود الفارين من جحيم النازية. وسيصبح منزل عائلتها نفسه، ومنازل اليهود في المدينة، بمثابة مسكن وملجأ لهم خلال فترات طويلة، إلى أن انتهت الحرب العالمية الثانية.. جدّ راحيل، من جهة أبيها، يدعى إلياس مويال، وكان من "رعايا" الدولة الهولندية، إذ حصل على "الحماية" الهولندية مع بداية القرن العشرين. كما أن والدها جوزيف مويال، قاتَلَ في صفوف الجيش الهولندي، بحكم جنسيته، خلال الحرب العالمية الثانية. عاشت راحيل طفولتها وشبابها بين حي مرشان وشارع باستور، انخرطت باكراً في العمل الجمعوي، انضمت إلى الرابطة الفرنسية للأدب، ما دفعها للتردد على مكتبة "الأعمدة" التي تبعد أمتاراً عن مقر سكنها.

تقول مويال في مذكراتها "سنوات عمري في مكتبة دي كولون" التي صدرت العام 2010: "مرة في 1973 عبرت الشارع لشراء كتاب سهل القراءة وحاجيات أخرى للاستمتاع بعطلتي على الشاطئ، لكن دزينة من صناديق الكتب كانت قد وصلت للتو من فرنسا، استوقفتني. كانت لموزعين عن دار غاليمار للنشر، هرعت فوراً لمساعدتهم في إنزالها إلى جانب السيدة إيزابيل جيروفي". وتقول: "بعد 25 عاماً مضت سريعاً على وجودي في المكتبة، اكتشفت السعادة النادرة التي لبت عطشي في إيجاد التفسيرات الممكنة للأشياء واكتساب المعرفة". "استقبلت في المكتبة أيضا أربعة ممن فازوا بجائزة غونكور: أمين معلوف، ديديي فان كوليرت وفرانسوا وييرجونس، وامرأتين أكاديميتين هما: مارغريت يورسنار، وآسيا جبار". تقاعدت مويال من خدمتها العام 1998، ففقدت المكتبة بريقها وكادت تتحول مخبزاً، لولا مبادرة رجل الأعمال الفرنسي بيير بيرجي الذي أنقذها باعتبارها مشروعاً إنسانياً، فعادت الحياة إلى الرفوف.

كتب عن "الأعمدة" دانييل روندو، الكاتب والرحالة الفرنسي صاحب كتاب "طنجة ومغرب متعدد" الذي ترجمه عبد المنعم الشنتوف ونشر معظمه في "القدس العربي". وروندو صاحب كتاب عن بيروت أيضاً. هناك أيضاً كيوم دو سارد، صاحب كتاب "جان جينيه"، ويقول عن المكتبة: "كانت مكتبة الأعمدة في طنجة تعود ملكيتها لدار غاليمار، وتديرها السيدتان جيروفي وكانتا زوجاً من المثليات تضطلع بدور مؤسسته البنكية. وكان(جان جينيه) يتردد عليها بين الفينة والأخرى كي يطلب بعض المال. وكان يجلس بعد ذلك على سطيحة مقهى كلاريدج الملاصقة للمكتبة ويأخذ في الحديث مع الزبائن المغاربة. ولأن جيوبه كانت مكتظة دوماً بالأوراق النقدية فقد كان يحكم إغلاقها بدبابيس خاصة بحفاظات الرضع. لم يكن يعوزه الحذر، وقد اعترف رغم ذلك بأنه كان عرضة للسرقة. لم يكن يحفل بالأمر، وإذا فطن لذلك فإنه يعمد إلى سرقة السارق، وإذا حاق به الفشل فإنه يقصد من جديد إلى غاليمار. ما زالت مكتبة الأعمدة موجودة وقد آلت ملكيتها إلى بيير بيرجي. وقد لاحظت بأن كتب جان جينيه ما زالت معروضة في مكان جيد بمعيّة كتب أخرى خصصت له وفِي مقدمتها السيرة الرائعة التي كتبها أدمون وايت، وكتاب جان بول سارتر وعدد خاص من المجلة الأدبية الموسومة "نجمة" أو الكاتالوغ الخاص بمعرض جان جينيه الذي أقيم العام 2016. وعلى الحائط سورة بالأبيض والأسود للكاتب. في سنوات السبعينات كان ثمة بورتريه لجان جينيه في مكتبة الأعمدة. بيد أن الكاتب أصر على أن يتم نزعه مهدداً بأن لا تطأ قدماه مكتبة جيروفي، إن لم يتم تنفيذ طلبه. كانت شهرته مثار إزعاج له، وكانت طنجة بمثابة فضاء يحتضن تقاعده عن العمل والكتابة"...
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها