الثلاثاء 2022/01/11

آخر تحديث: 20:42 (بيروت)

قارئات جمانة حداد.. عاريات

الثلاثاء 2022/01/11
قارئات جمانة حداد.. عاريات
فريق مجلة "جسد" (عن صفحة المجلة في فايسبوك)
increase حجم الخط decrease
... وبعد عشر سنوات غياب، عادت مجلة "جسد"، لصاحبتها، كثيرة الألقاب، جمانة حداد. خبر جيد. افتتاح أي منبر، ثقافي سياسي حقوقي ترفيهي، بالعربية، وتوافُر التمويل له في خضم هذه الأزمة التي يعيشها لبنان، والعالم العربي بأشكال مختلفة، هو شيء حسن. فرص عمل لكُثُر في هذا الزمن الصعب، ومنظور إضافي لمعاينة شأن عام، أياً كانت الزاوية المختارة، ولتكن المنافسة والبقاء للأفضل. فمعركة لا يجب أن تُسكِت أخرى، مهما كانت وطأة الانهيار على اللبنانيين، وثقل الحروب والقمع على العرب. زيادة الأصوات، خصوصاً إن تبنّت قضية، أمر يستدعي الاحتفاء، ولو أنه سيبشر بين جمهور مؤمنين لن يتجاوزه.


أما وقد ثُبّتت البداهة، يَحين تصفّح الموقع الالكتروني للمجلة. أول ما يخطر في البال: هذه مجلة "جسد"، تعود في مستهل العام 2022، بعد عامين على جائحة كورونا. الفيروس واللقاح، العِلم والطب، الهيمنة على الجسم في مقابل حريته ومعنى المفهومَين، المرض والحَجْر والموت، معركة البيولوجيا، إبداعاتها ورعبها، المدافن الجماعية، أنواع الحب والروابط العائلية الخاضعة لتحديات غير مسبوقة، العلاقات بين الأفراد، وبين الفرد والجماعة، وبين الفرد/الجماعة من جهة والدولة والمؤسسات والشركات من جهة أخرى، نساء ورجال ومراهقون وأطفال... عناوين لا تنتهي. ارتباطها بالجسد ارتباط الجنين بأمّه، ملأت الدنيا وشغلت الإعلام والمثقفين في أرجاء العالم، ومع ذلك، لا أثر لها في موقع "جسد" العائد بقوة، على ما يُفترض.

لا يهم... هو الخط التحريري نفسه منذ 10 سنوات. الهوَس بالجنس والجنسانية، الأنوثة والذكورة وكل عبور بينهما. "السيكس"، كما يورد الموقع الذي يطالبك بنقرة بسيطة لتثبيت أنك أكبر من 18 عاماً. الإثارة والتشويق المعهودان، السهولة الفائقة في لبوس المقاومة، حيث لا عدو فعلياً، ولا مانع. ثقافة الأعضاء التناسلية. الخلطة السحرية بين "شباك التذاكر" وجُرأة في علبة مزوّقة.

المجلة في النهاية تشبه صاحبتها وإصداراتها التي كنا قد فنّدناها بشكل مفصّل في مقال سابق يبدو أنه ما زال صالحاً ومُطابِقاً.

لا بأس فعلاً، إذ أن هناك متسعاً في الفضاء الإلكتروني لكل شيء، وثمة بعض مما يُقرأ ويُرى فنياً في الموقع الجديد... على أمل أن يحظى المحتوى، بعد بضعة أعداد، بالنقد والمساجلة والنقاش الجدّي. تحدٍّ في الـ"كيف" والـ"ماذا" و"لماذا"، وبالقدر نفسه الذي يناله من الحفاوة التي يخال المرء أنها باتت تتغذى من ذاتها، أي لمجرد أن قضية الجندرة محقّة بالمطلق، وفي الوقت نفسه، هي على الموضة، تستدر هذه الأيام اهتمام الجهات المانحة، إضافة إلى أثر لا يستهان به من شبكة علاقات واسعة لحداد في عوالم النشر والثقافة والإعلام والجوائز. والأمل الأكبر (بلا جدوى؟) ألا يكون كسر "تابو" الجنس، في حد ذاته، مولّداً لـ"تابو" جديد يمنع النقد والتفكيك الفعليَين لمواده، ويحول دون التجرؤ، هنا أيضاً، على حصانات السُلطة الثقافية التي تمثلها حداد، أو النضالية الشعبوية أو الإيديولوجيا المعكوسة. وهذا ما يقودنا إلى الحَدَثي في الموضوع،المُكتمِل الآن: حملة ترويج "جسد" في مواقع التواصل الاجتماعي.

فنانات وناشطات لبنانيات وافقن على تصويرهن عاريات فيما يقرأن عدداً ورقياً من "جسد". العدد يحجب بعض العريّ، من دون نفيه، ومن دون تلطيف ذاك الكمّ الهائل من المباشرة بلا طائل. خطاب أعجَر. وحساب المجلة في السوشال ميديا يشارك الصور ويشكرهن على قراءتهن ودعمهن، ويرفدهن بـ"تاغ" لحساباتهن، فيُستفاد من الأجساد ووجوه صاحباتها وما يملكنه من "فولورز". ثمة أخريات، مؤثّرات، لسن عاريات، لكنهن لا يبددن أثر المجانية في تلك الصور. العاريات لسن جزءاً من ملف أو مقال داخل المجلة. وجودهن خارجها يغير الموضوع برمته. صارت أجسادهن "أشياء" (objects) تتصرف بها جمانة حداد، تصدّرها لنظرات قراء وقارئات للاستقطاب. وعدد المجلة الذي يحضر خلفه العُريّ (لا يهم ما يختفي وما يظهر.. لكن لماذا يقرأ الشخص وهو عارٍ؟)، غلافه الخلفي إعلان لأحد إصدارات جمانة أيضاً (نرجسية مرعبة).   

نضع جانباً حمى جمع "النقرات"، وتعميم استهلاك الصور في الشبكات الاجتماعية على طريقة الأطعمة السريعة، فتظهر المفارقة على أشدّها: الدفاع عن الجسد، حقوقه وحريته، صراحته كما هي، بعريّه... أم المساهمة في تسليعه وتبخيسه وقتله عملياً؟ ما الفرق بين صور عاريات أو موديلات بالبكيني في إعلان سيارة جديدة، أو حتى في مجلات ومواقع بورنوغرافية تناكفها نسويات معاصرات ويحتججن عليها... وبينها في الترويج لمجلة ثقافية؟ إعلان الصابون يبقى أكثر منطقية. وما الفرق بين مغازلة العَين الاستشراقية (والذكورية التي تُغضب جمانة كثيراً) لتسويق مُنتج، وبين إطلاق العنان ثقافياً وحقوقياً لجسد محض، بلا قيود ولا رقابة؟

لعل المعيار بسيط، وربما يحتجب لفرط بداهته، وهو المعيار نفسه لتقييم أي عمل إبداعي: الافتعال والحشو، بعيداً مما "يبيع" أو "لا يبيع"، الحلو والقبيح. فكما في الرواية، والمقطوعة الموسيقية، والفيلم والمسرحية واللوحة والفوتوغرافيا... لا بد من سياق يبرر وجود حدث، نوطة، مشهد، لقطة، شخصية، استدارة درامية، أو، كما هو الحال هنا، جسد، وجسد عارٍ. ويفترض أن يكون السياق هذا على ارتباط وثيق بالمُنتج الثقافي نفسه، لا بـ"بيعه"، ولو حتى تحت شعار الشغب والتمرد. فهل يرتبط عريّ القارئات بالمجلة و"دعمها"؟ هل هو نفسه دعم غير العاريات، أم أنه يفوقه "حماسة"؟ ولماذا؟ هل نتحدث هنا عن ناشطات "فيمين"؟ أم أنها فعلياً نسخة مشوهة عنهن في غياب النسق التعبيري عن تيمة المجلة، المفترض أنها أعلى كعباً من الإعلان التجاري والموقع الإباحي الصرف؟ علماً أنه لا حُكم قيَمياً ولا "أخلاقياً" على هذا أو ذاك، لكنه فقط التوصيف والتصنيف، بغية الفهم، واختيار أدوات النقد المناسبة. وهذا ما يبدو هنا متعذراً. وهنا تثبت قرينتا الحشو والافتعال المُفضيتين إلى قطيعة مع المنتج الثقافي، نفور بالأحرى.

كل ما يُرى هنا هو عاريات في فترينة، واليافطة تقول: تسقط الفترينة! هن موافقات، وربما مرتاحات في مقاعدهن تلك، وهذا حقهن. النقاش في الطرف الآخر، في صاحبة الكاميرا وموظِّفَتها. أي منبر أو صاحب مشروع، كما المشروع، هو شأن عام، وبالتالي مساءلته جزء من حريته. النقاش هو في "جسد"، كفاعل ثقافي، يتمرّغ بكامل وعيه وخبثه، في الوحل. ويدّعي -كمشروع- أنه النهر الغاضب الذي سيجرف طيناً كثيراً. "جسد" لا يختلف كثيراً عن المؤسسة/ات التي يزعق بأنه يناطحها. لكن جمانة حداد فاهمة السوق جيداً، لا بد من الإقرار لها بذلك.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها