الثلاثاء 2022/01/11

آخر تحديث: 13:03 (بيروت)

عزيزي الروائي والقاص يوسف السباعي المحترم..

الثلاثاء 2022/01/11
عزيزي الروائي والقاص يوسف السباعي المحترم..
increase حجم الخط decrease
تحية طيبة وبعد:
من النادر أن لا ألمح طيفك لدى مروري في أي زقاق، أراك تحدجني بنظرات سائبة كأنك ترسم خريطة المكان عبر نظرات عينيك الشاردتين. 

ثمة فكرة غالباً ما تستبدّ بي عندما أمرّ في هذه الأمكنة اللزجة الفقيرة المترنحة المنسية: قصصك هي ما يرسم المكان، وليس العكس. نعم، ثمة نصوص تتجاوز كونها كلمات مرصوفة خلف بعضها البعض لنكون إزاء نص قفز المكان من متونه وانتصب يبادلنا العيون!!
هو عندئذ نص/عالم مكون من نوافذ وأبواب وأزقة متشعبة وعربات جر متلاصقة ولحم بشري يجدّ للحفاظ على تماسكه في واقع متشعب إلى ما لا نهاية... إنها قوة الكلمات. بقوة أية معجزة تحولت حمم الأرض الساخنة إلى ما نسمّيه الكلام؟ سأل مرة هنري ميللر، ولا أخمّن أنك بعيد من هذا السؤال.

عزيزي يوسف القاص، لست أدري إذا ما كانت رسالتي ستسرّك أو أنك سوف لن تجد فيها سوى لغو كلام وقد استنفدتَّ بقَصّك كل الكلام الذي قد يقال فيك. لست أدري... لعل رسائلنا إلى الآخرين لا تعدو أن تكون موجهة إلينا في نهاية الأمر، لكننا نتحايل على ذهننا ووجداننا عبر هذا التكتيك القديم؛ إرسال الرسائل إلى الآخرين.

أيها القاص العتيق، إسمح لي أن أهمس لك بسرّ: أحبّ قصّك بما يتجاوز قدرتي على تجاوزه أو على الإلمام به من قريب أو من بعيد. قرأتُ غيرك ممن تطرقوا لتلك الأماكن القريبة القصية المزدحمة الفسيحة المهملة ذات الحضور القوي والمسكونة بالأشباح، استمتعت قليلاً مع البعض ورمى بي البعض الآخر بمهالك الملل والتثاؤب الفسيح أما أنت ومن خلال قَصّك فقد صغت المكان عبر نحته بالكلمات ولم تتوقف عند وصفه أو تشريحه أو مجرد المبيت فيه. 

عزيزي القاص الجميل، أعذرني إذا ما تأخرت بمراسلتك، فأنا أقطن في مكان مهلهل مفشكل وآيل للسقوط في كل وقت، ومن ترف الأمور وسذاجتها أن نراسل من هذا المكان مَن نحب، لكن أنا الساذج المنطوي الصامت الخجول ولّيت مكاني الظهر وها أنذا أكتب إليك. 
وقع الظن في نفسي أني أجيد خوض غمار الأزقة الضيقة والحارات المتفسخة والجدران المتهالكة بسبب تسرب ماء السطوح. لا أخفيك سراً أني تهت بل وقعت في براثن الحيرة والاضطراب، إذ ليس من يسر الأمور ورحرحتها أن يقيس الشخص ضيق الأمكنة وانكماشها ثم استرسالها في التضبضب فوق بعضها البعض، لكن نصك آنسني وقد شدّ كل تلك التذررات المكانية عبر خيط قصك الرقيق. 

من الصح أن يقال إن ثمة أسواراً مادية ومعنوية تحوط هذا الهلاك الاسمنتي الصفيحي الطيني الخشبي بما يحوي من كائنات "في خلقهم عجب وفي لبسهم عجب... تراهم ما بين أكرش منبعج وهزيل نحيل وأعرج وأكتع وأحدب وأعور"، كما جاء في نص لك، إنما فلتسمح لي أن أبثّك وجهة نظري حيال هذا الأمر: إن هذه الأمكنة بناسها هي أسرار علنية للفضاءات الكبرى للمدينة، إن هذا الهشير السائب من الأسلاك والغبار والزعيق هو عبر ضجيجه الجم صمت المدينة الصاخب حيث تدّعي هذه الأخيرة رفعة الكلام وبيانه. فإذا كانت المدينة المنضبطة هي انتظام القول ورونقه، فإن تلك الحارات هي أبجديات مرتجلة تجيد رفس المعجم بكعابها ولنا في "زكية الحنش"، كما وصفتها في تلك القصة الرائعة، خير مثال. 

إن هذه الأمكنة الغُفل، المستشرية، المتوارية، الضاربة في التوغل والخروج في آن معاً تجيد بعزم مهمة اعتقال الأمزجة والخواطر والنظرات. أحسب يا صديقي الراحل أنك على دراية تامة بأن تلك النوافذ والأبواب والعربات التي تزيزق مثل بوابات جهنم وتلك الأصوات المتداخلة المتزاحمة وتلك الأجساد القوية المتهالكة وتلك النظرات المتفحصة المرتابة تشكّل بلا قصد منها الحد الفاصل بين ما يجب سرده وما يقع خارج غابة السرد.

حتى عندما يحلّ الليل وتُطفأ الأنوار ويتأبط الناس الأمان داخل مطارحهم الضيقة، تبقى هذه الأمكنة مفتوحة وتعود كي تستحث السرد في عتمة الليل البهيم. ثمة من ألمح مرة إلى أن الكتابة تستلزم أن تبقى النوافذ مفتوحة حتى لو أُغلقتْ بإحكام، وأنا على يقين تام يا صديقي الرائع أنك تعرف جيداً ماذا يعني هذا الكلام.

ما ينطبق على النوافذ في هذه الأجزاء المجعلكة من المدن المنبسطة، ينطبق أيضاً على الأبواب. جاء في مقاربة إثنولوجية عن الباب العبارة التالية: "تاريخ الأبواب هو تاريخ فتح وإغلاق وانتظار وخشية وصبر وعبور"... هو تاريخ هؤلاء الناس الذين يقطنون في متاهات متونك.

صديقي يوسف، لا أعلم إذا كان ثمة مَن منح الكلمات حظوظها، كما فعلت أنت لدى تطرقك لتلك الأحياء. لدى انكبابي على حاراتك، لا الضيق يعتريني ولا يأخذ بمجامعي الملل. إن هذا النص اليافع الذي تراه يتقافز بجنون، تراه بعد لحظات قلائل عجوزاً محدودباً يعمل فكّيه مضغاً ويمسح اللعاب من فوق تجاعيد ذقنه المرتجفة. 

حاولت عدم مراسلتك حيال ما قصصت علينا، لكن الحيلة لم تسعفني وقد تحول هذا القص إلى نافذة عبور وباب متشقق يقتضي المثابرة على الدخول والخروج وعلى الحضور بالإجمال. 
عزيزي القاص، لقد تحقق عندي عبرك أن السرد هو المكان بناسه ولا مسافة تفصل بين اللغة والحركة والسكون أو بينها وبين الصمت... السرد هو تلك المسافة بين "أبو الريش" و"جنينة ناميش" كما زيّنت لي الأمر. 

فجر آخر ينبلج وأشباح العتمة تتقلص وتزم، وثمة ديك يرفع عقيرته بالصياح منذراً بأول انبلاج الفجر. سأكتفي بهذا القدر راجياً لك السلام حيث أنت وقد أنعمت عليّ بيوتوبيا النظر والشم واللمس والسمع عبر محض الكلمات.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها