الثلاثاء 2022/01/11

آخر تحديث: 13:14 (بيروت)

صالون الشتاء المصري.. هل تحتاج الحرية عنواناً؟

الثلاثاء 2022/01/11
increase حجم الخط decrease
لا يحتاج الإبداع إلى عنوان أو لافتة دعائية لتأكيد أنه مُتّصفٌ بالحرية، أو أنه والحرية كيان واحد، أو أنهما وجهان لعملة واحدة، فمن غير المقبول ولا المتصوَّر أصلًا أن هناك إبداعًا حقيقيًّا وجادًّا ومؤثّرًا من دون أن يكون حرًّا، ومستقلًّا، ومستغنيًا، ومكتفيًا بذاته. هذا ما يبدو منطقيًّا ومفهومًا في الأحوال الطبيعية. أما في بعض الظروف الخاصة، والأوضاع الاستثنائية، فقد تتعمّد حركات فنية وجماعات أدبية إعلان انتسابها الصريح إلى الحرية، كما قد تقام معارض وتنعقد مناسبات وتدور أعمال تحت مظلة الحرية، وربما تتسمّى باسمها.

في أعقاب الثورة الفرنسية (1789)، على سبيل المثال، تمحورت الحركات الإبداعية حول مانيفستو الحرية، للبرهنة على مجاراة الفنون والآداب للثورة المجتمعية والسياسية، فالإبداع الجديد يجب أن يكون مختلفاً عما سبقه، لأنه أضحى لا يخضع لقيود وتوجيهات، ولا يلتزم بتابوهات وخطوط حُمر، ولا تُمارس عليه وصاية ورقابة، إلى جانب أن المبدع الحرّ هو ليس فقط الذي يمارس حرية الرأي والتعبير والحرية السياسية، وحرية إيجاد صيغ فنية واتجاهات وأساليب مبتكرة، لكنه في الآن ذاته ذلك القادر على الاستقلال الذاتي، والمادي.



وفي العالم العربي، اقترنت الحركات الأدبية والفنية بصفة الحرية، في غالبية الأحوال، بقصد إثبات الانزياحات الجمالية والتوجهات الطليعية والقفزات النوعية، كما في حركة "الشعر الحر" التي أطلقت على شعر التفعيلة المتمرد على عمود الخليل، وكما في "جماعة الفن والحرية" التشكيلية المصرية، التي ضمّت روّاد التجديد وآباء السوريالية في النصف الأول من القرن العشرين، ومنهم رمسيس يونان وجورج حنين وكامل التلمساني وفؤاد كامل وأنور كامل وغيرهم، الذين برروا تسمية جماعتهم بانحيازهم إلى الديمقراطية السياسية، والتطور الإنساني الخلاق، والتجديد الفني حدّ الفوضوية، والوقوف ضد الفاشية والقولبة والقداسة والمُثل الجمالية الوهمية، واقترنت تصورات الحرية لديهم كذلك بالعدالة والكرامة والقدرة على العيش والفعل الإيجابي.

ولا يخفى أيضًا أن من مسوّغات انطلاق "جماعة الفن والحرية"، وتسميتها، إعلاء صوت الضمير الشعبي المتطلع إلى الاستقلال، في مصر الملكية النازحة تحت الاستعمار البريطاني في ذلك الوقت، والتي كانت تتعرض لظروف بالغة الدقة والحساسية (الفقر والفزع والمدافع)، خصوصًا في فترة الحرب العالمية الثانية (1939-1945). وفي سياق مشابه، نشأت "جماعة الفن المعاصر" التشكيلية المصرية، خلال القرن الماضي، التي اتخذت الحرية شعارًا لها، وانحاز أعضاؤها حسين يوسف أمين، وسمير رافع، وعبد الهادي الجزار، وحامد ندا، وماهر رائف، وغيرهم، إلى معنى الحرية كمطلب مجتمعي لبلوغ النهضة، وكقيمة مجردة، تقود إلى إزالة الحواجز بين الحقيقة والوهم، والواقعي والمتخيّل، فمن خلال الحرية الفنية تسقط القيود والعوائق، وتتلاشى الإملاءات.

هكذا، فإن إشهار التصاق الفن والحرية، على هذا النحو الزاعق، هو وليد ملابسات محددة، تتعلق بأمور إبداعية جمالية خالصة من جهة (الانزياح والتجاوز والانفلات من قبضة المدرسي والموروث)، وتتصل بأسباب مجتمعية وسياسية من جهة أخرى (معارضة الأبوية والسلطوية ورفض القهر والكبت والتضييق والوصاية والتوجيه). ويبقى لكل حركة، ولكل مبدع، طريق خاصّ مختلف للتعبير عن هذا الفن الحر، أو الحرية الفنية.

وتحت عنوان "الفن حرية"، شهدت مصر منذ أيام قليلة (يناير/كانون الثاني 2022) انطلاق معرض تشكيلي جماعي في القاهرة (صالون الشتاء، قاعة الأهرام للفنون)، يتضمن أعمالًا متنوعة في الرسم والتصوير والحفر والنحت والخزف والفوتوغرافيا والخط العربي وغيرها لفنانين محترفين وهواة من أجيال متعاقبة.

وبغض النظر عما إذا كانت تلك الخلفيات حول جماعات الفن والحرية، والمناخات التي تأسست فيها، حاضرة في أذهان القائمين على المعرض القاهري الجديد أم لا، فإن إبداعات التشكيليين المشاركين تنبئ بحد ذاتها عن درجة كبيرة من التعطش إلى الحرية، واستنشاق نسائمها. وقد جاءت ثيمة المعرض كنقطة التقاء تلقائية، تتقاطع فيها رغبات الفنانين في التحدث بصخب، والصراخ غير المحكوم، والانطلاق، والتغيير، وتخطّي السائد، والتحليق في فضاءات عليا خارج الأسوار وقوى الجذب الأرضية.

"لم يكن هناك اتفاق مسبق على شيء بعينه، وإنما تُرك الباب مفتوحًا على مصراعيه أمام كل فنان، ليترجم مفاهيمه حول الحرية إلى إبداع متدفق"، على حدّ ما قالته لـ"المدن" التشكيلية أماني زهران، مديرة قاعة الأهرام للفنون ومنظّمة المعرض وإحدى المشاركات به، موضحة أن "الاستجابة لفكرة المعرض، المقام على شرف الفنان الراحل محمد الطحان، جاءت عريضة، إذ يشارك به حوالي مئة وثلاثين فنانًّا مصريًّا، إلى جانب أعمال محدودة لعشرة فنانين من السودان والعراق ولبنان وقطر والبحرين والأردن وروسيا".



ولعله من المثير للدهشة، أنه بالرغم من عدم انتظام فناني المعرض تحت راية جماعة أو حركة بعينها، وبالرغم من تعدد اتجاهاتهم وتياراتهم ومجالات إبداعاتهم البصرية، وتفاوت أعمارهم وتجاربهم وأوزانهم الفنية في المشهد التشكيلي المصري (كون بعضهم من الهواة والشباب والناشئة)، فإن هناك قدرًا غير هيّن من التجانس والانسجام والخيوط المشتركة والظواهر والملاحظات العامّة المهيمنة على أغلبية أعمال الفنانين المشاركين، ومنهم: ميرام محمود، عبد الحفيظ رمضان، سحر فوزي، كريم السيد، نور أشرف، نيفين حسن، ابتسام مصطفى، ندى محروس، منة الله زيتون، حبيبة حسن، رحاب غنيمة، رشا ياقوت، شعبان عيد، صفاء شرابي، مجدي ميخائيل، منى عصام، وغيرهم.

أولى هذه الملاحظات، تتمثل في الحضور النسوي الطاغي، سواء من حيث عدد الفنانات المشاركات، وهي ملاحظة إجرائية، ومن حيث استلهام الأنثى كموتيفة تعبيرية وبطلة ظاهرة وخفية للأعمال، وهي ملاحظة فنية. ولربما تدل الملاحظة الإجرائية على أن المرأة (الكائن المستضعف) هي الأكثر رضوخًا للقهر المجتمعي والأشدّ احتياجًا إلى آفاق الحرية الغائبة والمسلوبة، فيما تحيل الملاحظة الفنية إلى ما هو أوضح وأعمق، وهو حرص التشكيليين، من ذكور وإناث، على إبراز الضعف الإنساني الراهن في الواقع الخانق المحبط، وتصوير حجم الضغوط والمعاناة والحصار في اللحظة الحالية، كما توضح أعمال الفنانين التي تتناول رأس المرأة المفخخ، ويديها المقيدتين، وعينيها المعصوبتين، وفمها المكمم، وملامحها المنكسرة الذابلة، وجسدها المنهك المدمّر، إلى جانب انفجاراتها الداخلية، وانطفائها الروحي، وغضبها المكتوم.

ومن المشاهدات كذلك، تعاطي عدد كبير من الفنانين مع الخيول والطيور والأسماك، بوصفها رموزًا للانطلاق في البر والجو والبحر، وتخطي الحواجز، وذلك في لوحات وأعمال تلتقي فيها هذه الكائنات المتمردة مع النساء الراسفات في الأغلال، من أجل إبراز التناقض والمفارقة، وفي لوحات وأعمال أخرى منفردة بذاتها.

كذلك، تحضر في أعمال الفنانين سائر قرائن العزل والحبس والتضييق، مثل الأبواب والنوافذ المغلقة، والسلاسل، والأقفال، إلى جانب إشارات السواد والقتامة والتشاؤم، مثل المركبات والقطارات المتعطلة، والزوارق الغارقة، والطرقات الخربة، والضباب المنتشر، والأغصان المتيبسة، والأزهار الجافة. ويُظهر أحد الأعمال كيف أن السلاسل والأقفال قد طالت كل كائن وكل شيء، بما في ذلك الكتب والأوراق وروافد الثقافة والمعرفة والتعليم.

في جانب آخر، يلتقي معظم الفنانين في إثبات مدى احتياجهم إلى الاحتجاج والتمرد والتغيير، وإبداء قدرتهم على التحرك والتعبير والغضب في سائر الحالات، وقد يأتي ذلك من خلال المبالغة في إظهار الممارسات المرحة والطفولية، غير المحكومة بقيود، مثل الغناء والرقص وضرب الدفوف والعزف على الآلات الموسيقية، ما يعني أن المقاومة مستمرة، وفعل الحياة يتمسك بكل ما هو متاح من أجل الانتصار على التحجر والجمود والانغلاق.

وتبقى إشارة أخيرة، ضمن منظومة الملاحظات الأولية والإشارات العابرة، هي أن معرض "الفن حرية" لم يذهب بعيدًا في مجال التثوير الجمالي والفني، بمعنى إنجاز التحرر المنشود والتفوق المأمول على صعيد الابتكار التعبيري والتخييلي والأسلوبي والتكنيكي وما إلى ذلك، خارج الدارج من المذاهب والتيارات والمدارس، المصرية والوافدة. لكنْ، بالرغم من ذلك، لعلّ أهمية المعرض التوثيقية والتسجيلية تتأتى من إمكانية اتخاذ موضوعات أعماله ومفرداتها وعناصرها وحمولتها البصرية، علامات دالة على تفاصيل المشهد الحياتي والواقعي الآني، ذلك المشهد السرابي الذي يفتّش فيه الفنانون، والمواطنون عمومًا، عن الحرية، ويحلمون بمعانقتها لحظات قليلة في إطار الممكن؛ لا المستحيل.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها