الخميس 2021/09/09

آخر تحديث: 12:30 (بيروت)

الأزعر الحنون في لبنان

الخميس 2021/09/09
increase حجم الخط decrease
في 22 شباط 1964، احتلت غلاف "مجلة لبنان" Revue du Liban الناطقة بالفرنسية صورة كبيرة تجمع النجمين جان بول بلموندو وجين سيبيرغ، ورافقت هذه الصورة جملة قصيرة تقول ان الممثلين سيصلان قريباً إلى لبنان لتصوير مشاهد خارجية خاصة بفيلم من اخراج جان بيكر، عنوانه "فرارٌ حرٌ".

في الواقع، تطرّقت المجلة إلى هذا الحدث قبل أسبوعين حين وصل إلى بيروت قسطنطين غافراس، مساعد المخرج جان بيكر، وذلك لاختيار أماكن التصوير وتهيئة كل ما يلزم قبل وصول فريق العمل. ويبدو أن هذه الإطلالة أثارت حماستها، فجعلها ترافق مراحل تكوين الفيلم، وخصّت بعدها بطليه بغلافها، وقدّمت في مقالة قصيرة نبذة عن الفيلم مع ثلاث صور لبطليه يظهر في احداها معهما مخرج الفيلم. تجدر الإشارة هنا إلى ان قسطنطين غافراس الذي شارك في هذا الفيلم كمساعد كمخرج، قام في العام التالي بإخراج أول أفلامه، وحقق النجاح الكبير مع فيلمه الثالث "زد" سنة 1969.

بدأ بلموندو مشواره السينمائي في 1957، وظهر خلال ست سنوات في 27 فيلماً، بعضها من النوع الترفيهي، وبعضها من الفني الرفيع، ومنها فيلم "منقطع الأنفاس" الذي كتبه وأخرجه جان لوك غودار سنة 1960، وكان باكورة أفلامه الطويلة. يُعتبر هذا الفيلم واحداً من أوائل أفلام ما عُرف بـ"الموجة الجديدة" في فرنسا، وقد أدهش النقاد بأسلوبه التجريبي في الكتابة والتصوير، وجذب أكثر من مليوني مشاهد عند عرضه، ومثّل انطلاقة جديدة لبطله بلموندو في عالم السينما الفنية. في هذا الفيلم، لعبت دول البطولة النسائية جين سيبرغ، وهي صبية أميركية بدأت مشوارها السينمائي كذلك سنة 1957 تحت إدارة المخرج أوتو بريمنغر الذي قدّمها أولاً في دور القديسة جان دارك، ثم في دور سيسيل، بطلة رواية فرنسواز ساغان الشهيرة، "صباح الخير أيها الحزن". واصلت جين سيبيرغ مسيرتها بعد هذين الفيلمين، وكان "منقطع الأنفاس" سادس أفلامها، وقد جعل منها نجمة من نجمات السينما الفرنسية في تلك الفترة.

في المقابل، قدم جان بيكر أول أفلامه الطويلة سنة 1960، وهو فيلم "رجل يُدعى روكا" الذي لعب فيه جان بول بلموندو دور البطولة، وكان "فرار حر" ثاني أفلامه، وفيه أدار من جديد بلموندو، وجمعه للمرة الثانية مع جين سيبيرغ. في فيلم "منقطع الأنفاس"، لعب بلموندو دور شاب يُدعى ميشال، يهجس بشخصية النجم الهوليوودي همفري بوغارت. ولعبت جين سيبيرغ دور طالبة صبية تعمل في حقل الصحافة تُدعى باتريسيا. يطلق ميشال النار على شرطي ويرديه قتيلاً، ثم يفر ويلجأ إلى باتريسيا التي تخونه في نهاية المطاف، ثم يحاول الهرب بعد أن تطلق الشرطة عليه النار إلى أن يقضي حتفه وهو منقطع النفس. وفي "فرار حر"، لعب بلموندو دور مهرّب يُدعى دافيد، توكل إليه مهمة قيادة سيارة إلى لبنان، من دون معرفة ما تحمله هذه السيارة. ولعبت جين سيبيرغ دور صبية تُدعى أولغا، توكل إليها مهمة مرافقة دافيد في هذه الرحلة للتمويه. يغرم دافيد بأولغا، ويكتشف ان السيارة محمّلة بثلاثمئة كيلو من الذهب، فيقرر الاحتفاظ بهذه الحمولة، ويدخل في مواجهة مفتوحة مع أصحابها. وهذا الفيلم من النوع الترفيهي الصرف، ويحوي مشاهد صوِّرت في ألمانيا واسبانيا واليونان، إلى جانب تلك التي صُوّرت في مناطق عدة في لبنان، وتحديدا في بيروت وبعلبك وطرابلس.

رافقت "مجلة لبنان" هذا الحدث، ونشرت في 11 نيسان تحقيقاً تناول وصول نجمَي الفيلم وفريق العمل إلى بيروت، ثم الليلة التي امضوها في العاصمة، وانتقالهم في اليوم التالي إلى طرابلس للتصوير. في هذا التحقيق، ظهر جان بول بلموندو وجين سيبيرغ تباعاً في المطار، في فندق فينيسيا، في المؤتمر الصحفي الذي عُقد للحديث عن الفيلم، في ملهى باخوس، في أسواق طرابلس الميناء، وفي عنبر من عنابر هذا الميناء. رافق فريق العمل رومان غاري، الأديب الحائز جائزة غونكور في العام 1956، وزوج بطلة الفيلم، واللافت أنه كان الوحيد الذي زار لبنان من قبل، وذلك في زمن الحرب العالمية الثانية، يوم كان من رجال المقاومة الذين رافقوا الجنرال ديغول إلى المشرق. عشق غاري لبنان منذ ذلك التاريخ، وكان سعيداً بالعودة إليه بعد هذه السنوات، وقد لعب دور المرشد السياحي طوال أيام العمل بشغف كبير، بحسب ما جاء في هذا التحقيق.

عُرض "فرارٌ حرّ" في خريف 1964، وحقق نجاحاً تجارياً جيداً كما يبدو، اذ احتل المرتبة التاسعة عشرة في لوائح شبّاك التذاكر الخاصة بذلك العام، ثم دخل في الظلّ، ولا تذكره اليوم إلا قلة من محبي هذا النوع من الأفلام. بعد "فرارٌ حرّ"، عمل بلموندو تحت إدارة جان بيكر للمرة الثالثة في فيلم "الأزعر الحنون" سنة 1966، ولم يتكرّر لقاؤه بجين سيبيرغ على الشاشة في أي فيلم من الأفلام العديدة التي لعب فيها في السنوات التالية.

من المفارقات، أن بطلة "صباح الخير أيها الحزن" انفصلت عن زوجها رومان غاري في 1970، وعاشت حياة صاخبة، وعُثر عليها جثة هامدة في سيارتها أيلول 1979، وسجّلت السلطات القضائية وفاتها على أنها انتحار. في نهاية 1980، أطلق رومان غاري النار على نفسه وأنهى بهذه الطلقة حياته بعدما ترك رسالة قصيرة تقول بأن جين سيبيرغ ليس لها أي علاقة بانتحاره.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها