الخميس 2021/09/09

آخر تحديث: 12:48 (بيروت)

11 أيلول في السينما.. هجوم على الخيال

الخميس 2021/09/09
increase حجم الخط decrease
حتى قبل وقوعها، وجدت أحداث 11 أيلول مكانها في السينما. في العام 1998 ظهر فيلم الإثارة السياسي "الحصار" للمخرج إدوارد زويك، لكنه أُعتبر حينذاك مبالغاً فيه إلى حدّ كبير. انتحاريون من أصول عربية يضربون نيويورك بسلسلة من الهجمات، وبعدها يتخذ الجيش الأميركي إجراءات وحشية لمكافحة الإرهاب المستجد، بما في ذلك التعذيب المنهجي في معسكرات أقيمت خصيصاً لهذا الغرض. بدا سيناريو بعيد المنال. لاقي الفيلم، من بطولة بروس ويليس ودينزل واشنطن، فشلاً كبيراً على المستويين التجاري والنقدي.

بعد ثلاث سنوات بالضبط، انهار الملاذ الخيالي الآمن مع سقوط البرجين التوأم. خيال الأفلام التجارية، المرفوض قبلاً لبُعده الفائق عن المنطق، تجاوزه الواقع بقسوة لا يضاهي فداحتها سوى لامعقوليتها. الطائرات تخترق الأبراج، سحابات الدخان، ناطحات السحاب المنهارة، القافزون من الجحيم إلى الموت على الأسفلت، الحلقة اللانهائية للصور المباشرة على التلفزيون.. صدمة أيقونية لا يزال صداها مسموعاً بعد عشرين عاماً.

كتب المفكر سلافوي جيجيك أن الصورة "اخترقت واقعنا وحطّمته". برجا مركز التجارة العالمي، الرمز المعماري للقوة المالية الأميركية، أضحيا مقبرة جماعية راح فيها 3000 شخص. كل من فكَّر بصوتٍ عالٍ في جماليات الهجمات من منظور أفلام الكوارث، في انهيار الاصطناع المرئي ومعرفة الجناة التامّة بالثقل الرمزي لصور الرعب التي أنتجوها.. لاحقته اتهامات السخرية والشماتة. تحدث الموسيقار الألماني كارل هاينز ستوكهاوزن عن "أعظم عمل فني على الإطلاق"، وجلب لنفسه الانتقادات. الفيلسوف الفرنسي جان بودريار تحدّث عن الرغبة السرّية لدى كثيرين في اختفاء البرجين. ستيفن سبيلبرغ أراد فرض حظر على صور هجمات 11 سبتمبر، وألغيت إنتاجات لأفلام خيال علمي وسيناريوهات نهاية العالم، حتى إن مرأى البرجين في الأفلام الرائجة طاولته عمليات الاستقطاع والمراجعة.

أرهبت الأحداث، السينما، على نطاق واسع، حدّ أن الرعب الهوليوودي صار قديماً مقارنة بها. كانت هدنة/استراحة ثقافية.


بعد عشرين عاماً بتنا نعرف أن الصدمة والتابو الطارئين لم يعنيا بالضرورة نهاية سينما الكوارث. لكن الهجمات نفسها لم تُصوَّر سينمائياً إلا قليلاً. احتاجت هوليوود أكثر من 50 عاماً لإعادة تمثيل الاعتداء الأكبر على أميركا، ممثلاً في الهجوم على بيرل هاربور. ويبدو أن حالة 11 أيلول، بما هي الاعتداء الأكبر منذ ذلك الحدث الذي قلب موازين القوى العالمية في القرن العشرين، لم تبتعد عن هذا المثال. هنا، لم تعمل السينما كعلاج للخوف، ولم تستعذ من الشرّ بتخيّله أو إعادة تمثّله، بل بإبعاده قدر المستطاع.

في العام 2002، ظهر مشروع مشترك مكوّن من 11 فيلماً قصيراً بعنوان"11'09'01" ، بمساهمات من كين لوتش ويوسف شاهين وسميرة مخملباف وميرا ناير وشون بِن، من بين آخرين، وحاول التعامل مع الحمولة الزائدة للخيال عبر تقديم كل مخرج مشارك رؤيته الخاصة للأحداث في مدينة نيويورك خلال هجمات 11/9، في فيلم قصير من 11 دقيقة و9 ثوانٍ وإطار واحد.

في الذكرى السنوية الخامسة للهجمات، قدّم أوليفر ستون ملحمته البطولية "مركز التجارة العالمي" من بطولة نيكولاس كيج، ثم تلاه في العام ذاته بول غرينغراس بفيلمه الخيالي-الوثائقي "يونايتد 93" مع مجموعة من الممثلين الهواة. هذان الفيلمان هما الوحيدان الجديران بالذكر بين الأعمال السينمائية التي حاولت التعامل مباشرة مع الهجمات الإرهابية. يعتمد كلا النصّين على أقدار وحقائق من الحياة الواقعية، وكلاهما يواجه ما لا يمكن تصوّره بقصص عن أميركيين شجعان يخاطرون بحياتهم بطرق مختلفة تماماً.

أوليفر ستون، الذي قارن في العام 2001 بين "الإرهاب العربي" ومثيله الأميركي، جالباً لنفسه وابلاً من الانتقادات اللاذعة؛ استذكر وطنيته اليسارية، ورصيده الطيّب لدى الناس العاديين في زمنٍ مضى: حرب فيتنام وصدمتها ومناهضتها. في فيلمه، تتركّز القصة حول شرطي (نيكولاس كيج) وإطفائيين (جون ماكلوغلين وويل جيمينو). هم الناجون الوحيدون من بين 20 عنصر إنقاذ دفنوا تحت أنقاض مركز التجارة العالمي. النجاة تُقدّم كفيلم حربي زاخر بما يمكن تخيُّله من بطولات في فيلم أميركي رائج. جندي البحرية السابق لا يستسلم في بحثه، وفي التترات الختامية يعرف الجمهور أنه قاتل في حرب العراق بعد ذلك. البرجان التوأمان أُعيد خلقهما بواسطة الكومبيوتر: أحداث 11 أيلول تأتي كمؤثرات بصرية تختزن نوستالجيا وأهوالاً، سينما رعب وسنتمنتالية، مبهَّرة بتفجيرات مروّعة ومعاناة المدفونين أحياء وزوجاتهم اليائسات المنتظرات. الاستغلال العاطفي للكارثة يجد منصّته المثالية.

في المقابل، استغنى بول غرينغراس عن النجوم والمؤثرات الخاصة في فيلمه "يونايتد 93"، معتمداً على سيناريو تدور أحداثه في زمنها الفعلي، مع حوارات مرتجلة وغياب لتلك الفقرات والشخصيات البطولية، مختاراً التركيز على الذعر والفوضى داخل الطائرة الرابعة المخطوفة المشاركة في الهجمات، بالإضافة إلى اليأس المتنامي في أبراج مراقبة المطار. لم تصل الطائرة إلى وجهتها المفترضة، مبنى الكابيتول أو البيت الأبيض، فقد تحطمت فوق حقل في ولاية بنسلفانيا بعدما اشتبك ركّابها مع انتحاريي "القاعدة" على متنها. لم ينج أحد، وبالتالي لا نهاية سعيدة. لكن مرة أخرى، ثمة رسالة وطنية، تختصرها عبارة "فلنبدأ"، لقائلها الراكب الشجاع الذي أبلغ عن تعرُّض الطائرة للهجوم حين استدارت بسرعة وعنف، ثم أصبحت العبارة المرتجلة شعاراً في "الحرب على الإرهاب" حين اقتبسها جورج بوش الابن في خطاب ألقاه في 8 تشرين الثاني/نوفمبر. هنا، أيضاً، يتساءل المرء بكل صدق، ما الاستغلال الفني إذا لم يكن محاكاة رحلة موت حقيقية على متن طائرة مخطوفة خلال 90 دقيقة من التوتر السينمائي اللاهث؟


بعد ذلك، حان وقت الإنسان في سينما 11 أيلول: الحداد والفجيعة، الخسائر الشخصية، الناجون المدمّرون. في فيلم مايك بيندر "رين أوفر مي" (2007)، بطولة آدم ساندلر ودون تشيدل، يحاول طبيب مساعدة صديق الكلية القديم في تجاوز أحزانه بعد فقدانه زوجته وطفليه في الهجمات. في العام 2011، اقتبس ستيفن دالدري رواية جوناثان سافران فوير الشهيرة "عال جداً وقريب جداً"، في فيلم بالاسم ذاته، لكنه للأسف حوّلها إلى حكاية سنتمنتالية عن علاقة طفل بوالده المتوفّى في الهجمات.

تناول أكثر شمولاً يمكن العثور عليه في طيف أوسع من الأفلام عالجت "الحرب على الإرهاب" التي أعلنها جورج بوش الابن في أعقاب الهجمات. وسواء كان ذلك على هيئة فيلم أكشن، أو دراما نفسية، أو وثائقي استقصائي، أو إثارة سياسية.. فقد انتقلت السينما مرة أخرى إلى تضاريس وأراضٍ مألوفة. فيلم "30 دقيقة بعد منتصف الليل" للمخرجة كاثرين بيغلو، حول مطاردة الاستخبارات الأميركية لزعيم القاعدة أسامة بن لادن واغتياله، والذي أنجزته بعد فيلمها الفائز بسعفة "كان" الذهبية "خزانة الألم" عن جرائم القوات الأميركية في العراق؛ هو جزء من هذا النهج تماماً، مثله في ذلك كفيلم "الطريق إلى غوانتانامو" (2006) لمايكل وينتربوتوم، أو فيلم "في وادي إيلاه" (2007) لبول هاغيس حول قدامى المحاربين في حرب العراق وندوبهم النفسية. تعامل إيرول موريس مع فضيحة التعذيب في سجن "أبو غريب" في فيلمه الوثائقي "إجراءات التشغيل القياسية" (2008). كما فاز مايكل مور بالسعفة الذهبية لمهرجان "كان" من خلال مرافعته المناهضة لبوش "فهرنهايت 9/11"، وهو أول فيلم وثائقي يصل إلى قمة لوائح شباك التذاكر في الولايات المتحدة.

في الأثناء، ثمة أفلام ما زالت نائمة أو مهملة في هذا الصدد، وغالباً ما تأتي من خارج إنتاجات العالم الأنغلوساكسوني. مثلاً، قبل بضعة أسابيع، بدأت في ألمانيا عروض الفيلم الألماني "العالم سيكون مكاناً مختلفاً" للمخرجة آن زورا بيرشيد، ويتناول قصة التطرف الديني في دوائر الطلاب المسلمين في مدينة هامبورغ، من خلال حكاية حب مأساوية أحد أطرافها يشارك بطريقة ما في أحداث 11 أيلول. ومن ألمانيا أيضاً، يستند المخرج يوهانس نيبر، في فيلمه الأخير "كيرفبول"، على تورّط دائرة الاستخبارات الاتحادية الألمانية في كذبة أسلحة الدمار الشامل العراقية لتبرير شنّ الحرب على العراق.


ما زال الجرح مفتوحاً. في العام 2002، ابتكر سبايك لي، واحدة من أكثر الصور السينمائية إثارة للإعجاب في فيلمه النيويوركي "الساعة الخامسة والعشرين"، والذي ربما يكون أكثر الاعمال السينمائية ديمومة عن أحداث 11 أيلول. في الفيلم، يُرسَل تاجر مخدرات (إدوارد نورتون) إلى السجن، وفي يومه الأخير من الحرية يقرر مونتي قضاء آخر ساعاته طليقاً بصحبة صديقَيه الأعز منذ أيام الطفولة، فيقضي الثلاثة الليل بأكمله يجوبون أنحاء المدينة، ويتذكرون أيام الطفولة وأحلامهم البريئة. في أحد المشاهد، ينظر الصديقان من النافذة إلى مركز التجارة العالمي، قلب المدينة النازف. المزاج وداعي وحزين: عندما يطلق إدوارد نورتون خطبة تقريعية بحق نيويورك أمام المرآة، تتحوّل في الوقت ذاته إعلاناً للحبّ. يقع الخيال في سحر الواقع، ولا يُخفي الفيلم ذلك.


في سلسلته الوثائقية الجديدة لصالح شبكة HBO، بعنوان "NYC Epicenters 9/11 - 2021 ½" ، يمدّ سبايك لي، خطّ اهتمامه من العام 2001 وحتى جائحة كورونا، ليبيّن في ثماني ساعات، تداعيات هجمات القاعدة والوباء على نيويورك. رغم ذلك، ففي الحلقة الأخيرة من السلسلة، انضمت إلى الخبراء المحترمين، ثلة من منظّري المؤامرة الذين لا يؤمنون بهجوم إرهابي، لكن بتفجير مستهدف بواسطة عملية تمّ التحكّم بها من بعد. في هذه الأثناء، عاد سبايك لي، إلى غرفة التحرير، وطلب من جمهوره عدم حسم أمرهم حتى بث الحلقة، التي من المقرّر عرضها في 11 أيلول 2021، في الذكرى العشرين للهجمات.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها