الثلاثاء 2021/09/07

آخر تحديث: 18:25 (بيروت)

لبنان الواقف خلف بلموندو

الثلاثاء 2021/09/07
لبنان الواقف خلف بلموندو
increase حجم الخط decrease
جان بول بلموندو، الوجه الأيقونة من أسحار السينما الفرنسية و"موجتها الجديدة"، يقبِّل حسناء شقراء هي جان سيبيرغ، على خلفية مشهدية لمرفأ.. بيروت؟ لا، إنه مرفأ طرابلس، يؤكد الصديق "الأرشيفي" الخبير معلّقاً على الصورة في "فايسبوك".


بيروت، طرابلس،.. سيّان في المجد، والحِداد والشظف.

لكن بلموندو زار لبنان الذي ظهر في بعض مشاهد فيلم له من الستينات، وإن تبيّن أن المرفأ في خلفية هذه الصورة، أوروبي. في لبنان، صوّر بعضاً من فيلم "الهروب الحر" Echappement Libre (إنتاج فرنسي-إيطالي-إسباني، وبلا مشاركة فنية لبنانية)، والذي انطلق في الصالات الفرنسية في 4 أيلول/سبتمبر 1964. بلموندو الذي رحل أمس عن 88 عاماً، وغزت صوره وأفلامه الشاشات والمواقع الإلكترونية. في ألبوماته المطمورة، بعض من بيروت الزائلة. غُرف و"بار" فندق فينيسيا، ديكورات داخلية لفيلمه غير المشهور.


تلمع الفكرة بألف لون وترقص حولها كواكب كرتونية براقة، رغم أنها ليست بعيدة من المألوف اللبناني في السينما العربية والغربية، خلافاً لحواضر الجوار، دمشق وعمّان، بغداد وحتى القاهرة. فمصر والعراق شكّلا "موضوعاً" للكثير من الروايات المؤفلمة والشرائط العالمية، لكنهما لم يشكلا بالضرورة "الكانفا" البصرية الفعلية لتلك الإنتاجات وغيرها، كما كان لبنان الخمسينات والستينات وأوائل السبعينات. بيد أن الاكتشاف، اليوم، في صُور بالأبيض والأسود، يبدو كنزاً، لُقية أثرية وقد أزيح عنها التراب للتو، بتلك الفرشاة الصغيرة الناعمة التي يستخدمها المنقّبون وصيادو التحف بمهارة جوهرجي أو ساعاتي قديم.

إنه الزمن. مزحة الزمن الثقيلة، هي مكمن الدهشة ووطأة المفارقة واختلاط المشاعر. لسان التاريخ الممدود في وجوهنا. لبنان 1964، أواخر عهد فؤاد شهاب، في ذروة فَورته، قبل النكسة واتفاق القاهرة ثم الحرب الأهلية وبقية "الفيلم" المظلم. هذا اللبنان الذي ندرك الآن أنه ذهب إلى غير رجعة. انقرض بالفعل فيما لا يزال يصحو وينام، ينزف ويقتل ويطرد أبناءه. الدراما تنعقد في كون الأمل، الذي لم نصدّقه مرة بالكامل، يتبدّى كذبة أصيلة ودامغة هذه المرة، لا لبس فيها، خديعة العصر في زمن جريمة العصر. 

لطالما تسقّطنا ملامح لبنان في الأفلام المصرية، وفي ظلال مشاهير عالميين. كان الأمر أشبه برياضة وطنية، من أيام الحرب، نمارسها معاً بلا تنسيق أمام الفيلم المتلفز ظهيرة يوم الأحد. في خلفيات قصص الحب والخيانة، الحبكات الكوميدية والبوليسية، تتبعنا خطّ شاطئ بيروت، الروشة والتليفريك وبعلبك، وطُرُقاً جبلية كأنها شُقّت في الأصل لتلك السيارات الزاهية المكشوفة والشَّعر المتطاير لممثلات فاتنات. ولطالما تحزّرنا صغاراً، نحن الذين لم نعرف "سويسرا الشرق"، عن هوية الأماكن والمحلات، يعيننا أهلنا الذين بتنا نحن أدلّتهم لاحقاً في وسط بيروت التسعينات، والحمرا، جونيه والكسليك وشريط الواجهة البحرية.

المتعة الصغيرة في الأحجيات العشوائية، تبدو اليوم محواً لذوات عن بِكرة أبيها، ولكل ما عشناه منقولاً، أو ملموساً، بكل زيفه. إنه نفي الأَعمار والمخيلات وحتى الماضي الذي صار معناه صفريّاً، كموضوع إنشاء خالٍ من الموهبة، بطاقة بريدية بائخة، طالما أنه بلا حاضر، والمستقبل توقف حتى عن أن يكون متوهّماً. التلصص على البلد الذي بلا فرصة، على أنفسنا من الزاوية هذه، يكاد يساوي سِفاحاً محرّماً لا يمكنه أن ينجب إلا مسخاً ملعوناً.

في "الهروب الحر"، جسّد بلموندو شخصية مُهرّب ذهب وألماس، يتعقّبه قَتَلة، و"البضاعة" مخبأة في سيارة خُطّط لها السفر من بيروت إلى دمشق. إنه المجرم الظريف، مغويّ النساء، الذي، وبحسب "المنبوشات" المحدودة للفيلم في الانترنت، يجري مكالمة خاطفة من هاتف عمومي.. في السراي الكبير! يُفترض حصول ذلك قبل نحو سنة من تحويل السراي مقراً لكلية الفنون الجميلة التابعة للجامعة اللبنانية في 1965. مجرم، مهرّب، بيروت، دمشق، سراي، فنون، الجامعة اللبنانية... كلمات متقاطعة الآن. هباء صودف تعويمه من مغمورات نجم فرنسي ميت.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها