العرض السينمائي الأول في أفغانستان يعود إلى فترة حكم أمير حبيب الله خان (حكم من 1901 - 1919)، لكنه ظلّ محصوراً داخل أروقة البلاط الملكي. في العشرينيات، عُرض أول فيلم صامت للجمهور العام. في الأربعينيات، أُنتج أول فيلم أفغاني، بعنوان "حبّ وصداقة". وسيمرّ أكثر من 20 عاماً حتى تأسيس مؤسسة الفيلم الأفغاني في العام 1969، والذي سيضطلع بإنتاج أفلام وثائقية وإخبارية تغطّي الاجتماعات المؤتمرات الرسمية، كانت تعرض في دور السينما قبل عروض الأفلام التجارية، الهندية في أغلبها.
في السبعينيات، شهدت السينما الأفغانية عصرها الذهبي، الذي افتتحه أول فيلم روائي من إنتاج المؤسسة، وكان بعنوان "مثل النسور". ثم تلته أفلام متعددة - لكن قليلة - تناولت الموضوعات المألوفة سينمائياً، كالحب والصداقة والمسائل الاجتماعية، وشهدت تلك الفترة ظهور نجوم سينمائيين يرتبط بهم الجمهور وينتظر جديدهم. وهي الفترة ذاتها صاحبة النصيب الأكبر من الاستدعاء والنوستالجيا والتحسّر لمن أراد تبيان صورة مغايرة لأفغانستان خارج ردائها الميديوي وصورتها النمطية في الأخبار ووسائل الإعلام، كبلدٍ منكوب بالإرهاب والجماعات المتشددة واللون الواحد.
ثم جاء الغزو السوفياتي لأفغانستان، ومعه الإنتاج السينمائي الدعائي، إنما أيضاً مساعدات ثقافية تمثّلت في تقديم الدعم والمنح الدراسية للطلاب المهتمين بدراسة السينما في الخارج. ثم وصلت طالبان إلى السلطة في منتصف التسعينيات، فتعرّصت دور السينما للدمار، وحُرق العديد من الأفلام، وفرّت غالبية صانعي الأفلام من البلاد بسبب الحروب الأهلية، إلى باكستان وإيران وهناك أنجزوا أفلاماً ومقاطع فيديو لصالح المنظمات غير الحكومية. منعت طالبان مشاهدة التلفزيون (لأنه حرام بالطبع)، وأغلقت دور السينما أو دمّرتها، وما نجا منها تحوّل إلى مقاهٍ ومطاعم أو طاوله الإهمال. في تلك الاثناء الكئيبة، تمكّن بعض العاملين السينمائيين من الحفاظ على بعض أرشيف السينما الأفغانية، عبر إخفاء مئات شرائط الأفلام في براميل تحت الأرض أو في غرف سرّية، ستظهر لاحقاً بعد سقوط طالبان في أوائل الألفية الجديدة مستعادةً في عروض تكريمية في مهرجانات عالمية. حول هذه المحاولات الشجاعة والصراع من أجل إبقاء تاريخ الفن الأفغاني، كرّس المخرج آرييل نصر فيلمه الوثائقي "بَكَرة مُحرَّمة" (2019).
بحسب المخرج الأفغاني أبوزار أميني، فالفترة الأولى من حكم طالبان (من 1996 إلى 2001) لم تقض تماماً على السينما، على الأقل مشاهدتها. "استمرّ الشباب في مشاهدة الأفلام سرّاً، ونظّموا عروضاً جماعية في أماكن آمنة، في ظلّ ظروف يصعب تخيّلها، لمجرد أن نكون قادرين على مشاهدة الأفلام". حين أعادت دور السينما فتح أبوابها في العام 2001، وكانت "سينما بختار" أولاها في 19 تشرين الثاني/نوفمبر، دخلها آلاف الأشخاص في ذلك اليوم. افتتحت أكاديمية للسينما في جامعة كابول، وكان يحاضر فيها متخصصون من فرنسا وألمانيا والولايات المتحدة. لم يكن هناك دعم حكومي، لكن كان هناك تضامن بين صانعي الأفلام الشباب. على مدى الأعوام العشرين الماضية، حاول المهتمون إعادة الحياة للقطاع السينمائي، والآن، مع عودة طالبان إلى الحكم، تبدو الصورة أكثر سواداً، رغم كل وعود الحركة، والشعور العام أن ما تم تحقيقه في العشرين عاماً الماضية قد انتهى. "الألوان الجديدة تلاشت مرة أخرى في الظلام، كل الألوان التي صنعناها وتمنيناها لأفغانستان الجديدة تلاشت في الظلام والسواد"، يقول أميني.
***
(أفغاني أمام متجر يعرض ملصقات لفناني بوليوود في كابول العام 2002 - أ ف ب)
أفغانستان بلد عريق يملك تاريخاً حزيناً ممتداً وخريطة ديموغرافية معقّدة ومحكومة بتشابكات التاريخ والسياسة. لذا يكاد يستحيل بالنسبة لمعظم الناس معرفة شعور العيش في بلد/مدينة وقعت تحت سيطرة قوة متشددة وعنيفة وأحادية التفكير. لا يسعنا إلا أن نتخيل بشكل سطحي الخوف وعدم اليقين والقلق الذي يدور في أذهان أولئك الذين شهدوا عودة اليد الثقيلة لنظام طالبان بعد 20 عاماً اختبروا خلالها العيش خارج إطار النمط الواحد الموحّد. في هذه اللحظة، لم يتبق شيء عملياً سوى مشاهدة الصور الرهيبة الآتية من ذلك البلد، حيث تحكم قبضتها عليه من جديد حكومة محافظة متشددة وشموليّة، وفوق كل شيء كارهة للمرأة.
ورغم أن طالبان خرجت في عودتها المظفّرة مؤخراً، بلغة تطمينية، وأكدّ متحدثوها أنهم هذه المرة سيشكّلون حكومة جديدة، وأنهم لن ينتقموا من السكان، وأنهم سيحترمون حقوق المرأة بقدر ما تسمح الشريعة الإسلامية، فإن الأخبار الواردة تقول غير ذلك. أفادت التقارير أن ملايين الفتيات قد تسربن بالفعل من المدرسة، وأن صالونات التجميل تغلق في أنحاء البلاد، وعادت العبودية الجنسية. صحيح أن بعض النساء خرجن للتظاهر في شوارع كابول، لكن يُخشى أن تكون مسألة وقت فقط قبل أن تعود عمليات التشويه والرجم والاغتصاب والتعذيب العلني.
"هذا الانسحاب المتسرع للقوات هو خيانة لشعبنا وكل ما فعلناه عندما انتصرنا في الحرب الباردة من أجل الغرب. لقد نُسي شعبنا حينذاك، ما أدّى إلى فترة حكم طالبان المظلمة، والآن بعد 20 عاماً من التقدم الهائل لبلدنا، وخاصة بالنسبة لجيل الشباب، قد يضيع مرة أخرى في هذا التخلّي الجديد"، كتبت صحراء كريمي، المخرجة ومديرة مؤسسة الفيلم الأفغاني، في بيان غاضب أعقب انسحاب القوات الأميركية من أفغانستان. وأعربت المخرجة عن مخاوفها من ضياع كل التقدم الذي أُحرز على صعيد الحقوق والتدريب الثقافي في العقدين الماضيين. كما شددت على أن "النساء معرضات لخطر الاختفاء التام والقمع والعودة إلى عتمات البيوت. أصواتنا وقدرتنا على التعبير عن أنفسنا مرة أخرى سيعودان إلى نقطة الصفر من جديد".
قبل عامين فقط، كانت كريمي تعيش حياة عملية نشطة، تتوزّع بين إنجاز الأفلام وحضور المهرجانات وإدارة عمل المؤسسة السينمائية الحكومية التي تترأسها كأول امرأة تتقلّد هذا المنصب. فيلمها الأخير، "حواء، مريم وعائشة"، يروي حكاية ثلاث أفغانيات حوامل يقررن التخلص من أجنّتهن لأسباب تتعلّق بالضغوط الاجتماعية في المجتمع المحافظ، عُرض في مهرجان البندقية السينمائي. الآن، بحث بسيط باسمها في "غوغل" سيتكفّل ببيان وضعها المزري، بين محاولة فرارها رفقة أسرتها خوفاً من الموت على أيدي طالبان، وبين مناشدتها اليائسة لمن لا يهمّه أمرها وسواها من الأفغان. حالة واحدة تختصر جانباً لافتاً من تعقيد وتراجيديا مسألة السينما الأفغانية.
سؤال السينما الأفغانية مرهون بما يتعدّى الجوانب التقنية للصناعة ومدى توافرها أو شيوعها، مرتبط بحاضر وتاريخ بلد أعقد من جغرافيته الوعرة. مسافات متباعدة لا تصنع طريقاً، وحتى إذا وُجد هذا الطريق، فالانقطاعات على طوله تجعل من استدامته أمراً مستحيلاً. هناك أفلام أفغانية، لكن لا سينما أفغانية. أمر مشابه - على سبيل المثال لا المقارنة – بالوضع في لبنان. ينفتح الطريق، فتظهر الألوان وتعود وجوه النساء. تتكهرّب المناخات، فتتعطّل الكاميرات أو تهاجر إلى خارج الوطن، لتروي حكايات المنفى وأسباب الرحيل وصعوبات العيش، ويبقى الحبّ لبلد الأجداد أطول عمراً وأدوَم إقامة.
***
(صورة من زمن بعيد؟ جنود الجيش الأفغاني يشاهدون فيلماً، العام 2020 - أسوشيتد برس)
قبل ست سنوات، كتبتُ
تدوينة في "شباب السفير" عن صورة لم تفارقني لإحدى صالات السينما الصيفية شوّهها الرصاص في العاصمة الأفغانية كابول. تعود طالبان، فتعاود الصورة الظهور، ويعاودها ذلك الشهور الغامض براهنيتها ودوامها. رصاص قديم يتجدّد، وسينمات حديثة سينخرها الرصاص. طبقات من التاريخ والتبدّلات تختصرها صورة، لحظات مختلفة من التدمير تستقر ّمثل طبقات مترسّبة فوق بعضها البعض.
لحسن الحظّ، أن الأفلام، على عكس دور السينما، لا تموت. خلال الأعوام العشرين الأخيرة، ابتكرت السينما الأفغانية سلسلة من الإنتاجات التي لا تكتفي بوضعنا لدقائق على طاولة واحدة مع هذا الشعب الطيّب، بل أيضاً تذكّر بكل الأشخاص الذين يخسرون اليوم كل شيء. وأيضاً تذكّر بالخطايا الأميركية الكثيرة والكبيرة. لهذا السبب نستعرض هنا مجموعة مختارة من الأفلام الأفغانية (وذات الموضوع الأفغاني) التي تسمح لنا بإلقاء نظرة على الديناميكيات المعقدة والتاريخ الوعر لهذا البلد، وربما تساعدنا في فهمه...
أفغانستان: الأرض الجريحة (2020، سلسلة وثائقية من أربعة أجزاء)
... كيف وصلنا إلى هنا
موسيقى الجاز، فتيات بلا حجاب يرقصن، هيبيون يدخّنون الحشيش، حفلات ساحرة مع ضيوف من جميع أنحاء العالم، هكذا كانت أفغانستان في الستينيات. يتتبع الفيلم (
متاح للمشاهدة على موقع قناة ARTE) الطريق من أفغانستان المملكة إلى الدولة الشيوعية وأخيراً إلى الحرب مع السوفييت. فشلت بريطانيا، كما الولايات المتحدة الأن، في احتلال هذا البلد بفضل صمود أبنائه المتمسكين بدينهم، لكن ليس بتلك الصورة التي نراها اليوم من كارهين للبشر وللحياة يزعمون إقامة دولة الإسلام.
كانت أفغانستان ذات يوم قوة عظمى في قلب آسيا وأمة تجارية تمرّ عبرها طرق نقل مهمة بين الشرق والغرب. يُظهر الوثائقي جمال المناظر الطبيعية البرية، أطفال سعداء، طلاب حالمون. شهود عيان معاصرون يدلون بشهاداتهم عن التحوّلات والتبدّلات، مثل الدكتورة سيما سمر التي اعتقل زوجها ولا يزال مفقوداً حتى يومنا هذا، والصحافية زهرة يوسف، وقائد المجاهدين العجوز قلب الدين حكمتيار. ما يمكنك رؤيته، ليس فقط المستعمرون الجشعون، وإنما أيضاً الحُكّام الأفغان أنفسهم بتجاهلهم للمشاكل الاجتماعية وفسادهم وحبّهم للغرب هم المسؤولون عن الوضع الرهيب الحالي.
المُعيلة (2017، نورا تومي)
... لماذا يرغب الكثيرون في الفرار
لا رجُل في المنزل، لا طعام. وفي شوارع حركة طالبان، ممنوع على النساء مغادرة منازلهن وحدهن. بارفانا ذات الـ11 عاماً تواجه كومة من الزجاج المكسور بعد اعتقال والدها. بإيحاء من صديقة لها، تقصّ شعرها وتتنكّر كصبي لشراء الأرز للعائلة. في صورٍ تذكّر بالحكايات الخيالية وسرد يستلهم إيقاع ألف ليلة ونغمات مفعمة بالأمل، يروي
هذا الفيلم المؤثر حكاية الحياة والأحلام في العام 2001، حين انتهى ما بدأ مرة أخرى: حكم طالبان.
أسامة (2003، صديّق برمك)
... لماذا تخاف النساء على حياتهن
كان هذا أول فيلم يصوَّر بالكامل في أفغانستان منذ العام 1996، وفاز بالعديد من الجوائز، بما في ذلك جائزة "غولدن غلوب" لأفضل فيلم بلغة أجنبية. يحكي قصة الدراما التي كان على آلاف الفتيات اختبارها في هذا البلد تحت حكم طالبان: ظاهرة "باتشا بوش". لا توجد المرأة عملياً في أفغانستان، وإذا لم يكن لها أقارب من الذكور، يُحكم عليها بالإعدام لأنها لا تستطيع العمل أو الدراسة أو الخروج إلى الشوارع. هذه هي حالة امرأة وابنتها ليس لديهما أحد في العالم سوى نفسيهما، ومن أجل البقاء على قيد الحياة، تضطر الابنة إلى التنكّر في هيئة ولد صغير اسمه أسامة، لتتمكن من العمل وإعالة أسرتها في غياب أي ذكور. تجد الفتاة عملاً لبعض الوقت، لكن الناس يشتبهون فيها ويزداد الأمر سوءاً عندما يتم تجنيدها قسراً وتُنقل إلى مركز تدريب عسكري، حيث سيتعيّن عليها النجاة وإيجاد طريقة لإخفاء سرّها.
تتشابه حبكة الفيلم مع "المُعيلة"، لكنه أكثر مرارة ودرامية في تصويره لنظام الملالي الأبوي.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها